الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 149 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنفال

قوله تعالى: يسألونك عن الأنفال ، الآية: 1. اعلم أن النفل هو الزيادة في اللغة على القدر المستحق، ومنه النوافل . والنفل يكون من الإمام للسرايا التي تتقدم الجيش الأعظم، مثل أن يقول للسرية: لكم الربع بعد الخمس. أو يقول: من أصاب سهما فهو له، على وجه الحث على القتال والتضرية على العدو. أو يقول: من قتل قتيلا فله سلبه. فأما بعد إحراز الغنيمة فلا يجوز له أن ينفل شيئا من نصيب الجيش، ويجوز له أن ينفل من الخمس.

وقد اختلف في سبب نزول الآية فقد روي عن سعد أنه قال: [ ص: 150 ] أصبت يوم بدر سيفا، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: نفلنيه: فقال: ضعه من حيث أخذت، فنزل قوله: يسألونك عن الأنفال ، قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب خذ سيفك. وروي عن ابن عباس أنه قال: يسألونك عن الأنفال ، الأنفال: هي الغنائم التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء، ثم أنزل الله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول .

وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها، فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم، فأنزل الله تعالى: لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا .

ورووا عن عبادة بن الصامت وابن عباس وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل يوم بدر أنفالا كثيرة مختلفة وقال: من أخذ شيئا فهو له. واختلفت الصحابة فقال بعضهم: نحن حمينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا ردءا لكم . وقال قوم: نحن قاتلنا وأخذنا، فلما اختلفنا وساءت أخلاقنا انتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه غير الخمس، وكان في ذلك تقوى وطاعة رسول الله، وصلاح ذات البين لقوله تعالى: [ ص: 151 ] يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم". وبين الله تعالى أن ذلك مما يظهر به إيمانهم، وأنه لا يجدون في أنفسهم حرجا بما قضى به رسول الله تعالى، فهو معنى قوله: إن كنتم مؤمنين .

قال الرازي : وهذا غلط، وإنما قال النبي عليه الصلاة والسلام يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه" . وقوله تعالى: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول .

نزل بعد حيازة غنائم بدر، وما كانت الغنائم قبل ذلك تحل. وهذا ليس بصحيح، لإمكان أن الله تعالى أحلها يوم بدر للمسلمين، ولكن لما اختلفوا انتزع منهم وجعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومما قاله في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كيف يقول: من أخذ شيئا فهو له ويخلف وعده. وهذا ليس بشيء، فإنه ما أخلف وعده، لإمكان أنه كان كذلك، ولكن ورد بعده الناسخ، لما اختلفوا، وإنما جعل لهم ذلك بشرط ألا يختلفوا، خلا خبر فيما قاله. فإذا ثبت ذلك، فاعلم أن قوله: يسألونك عن الأنفال ظاهر في أنهم سألوه عن مال معلوم، وأن الجواب في ذلك: أن ذلك لله والرسول، [ ص: 152 ] ومعلوم أن كل شيء فهو لله تعالى ملكا حقا، فلم يختلف العلماء أن المراد به: استضياع كلام. فتحصل من الجواب أن الأنفال للرسول.

وظاهر هذا القول يقتضي أمرين: إما أن يكون ملكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو وضعه حيث يريد، وإن لم يملكه حقيقة. فعلى هذا الوجه اختلف العلماء، فقال بعضهم: إن للرسول عليه الصلاة والسلام أن ينفل ذلك على المجاهدين على ما يراه صلاحا. وقال بعضهم: بل ذلك ملك الرسول أو كالملك له، حتى يصرفه إلى من شاء.

وظاهر قوله: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم كالدلالة على أنه متى أراد وضع ذلك فيهم تنازعوا واختلفوا، فأنزل الله تعالى ذلك، بعثا لهم على الرضا بما يفعله من القسمة بينهم، وذلك دليل على أنه ليس بملك له ولا لهم وإلا كانوا في ذلك كغيرهم، وكان لا يكون لقوله تعالى: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم معنى، فإن أراد المريد بالملك أن له أن يتصرف فيه على ما يراه ويختاره فنعم، وإن أراد به الاستبداد والانتفاع به، فما ذكرناه كالمانع منه، وقيل لذلك نفل، لأن الغنائم لما لم تكن مباحة من قبل، كانت كأنها عطية زائدة من الله تعالى، فسميت أنفالا لذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية