الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنا إذا حملنا قوله : ( سبعا من المثاني ) على سورة الفاتحة فههنا أحكام :

                                                                                                                                                                                                                                            ( الحكم الأول )

                                                                                                                                                                                                                                            نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال : كان ابن مسعود يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب رأى أنها ليست من القرآن . وأقول : لعل حجته فيه أن السبع المثاني لما ثبت أنه هو الفاتحة ، ثم إنه تعالى عطف السبع المثاني على القرآن ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وجب أن يكون السبع المثاني غير القرآن ، إلا أن هذا يشكل بقوله تعالى ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) [الأحزاب : 7] وكذلك قوله ( وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) [البقرة : 98] وللخصم أن يجيب بأنه لا يبعد أن يذكر الكل ، ثم يعطف عليه ذكر بعض أجزائه وأقسامه لكونه أشرف الأقسام . أما إذا ذكر شيء ثم عطف عليه شيء آخر كان المذكور أولا مغايرا للمذكور ثانيا ، وههنا ذكر السبع المثاني ، ثم عطف عليه القرآن العظيم ، فوجب حصول المغايرة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب الصحيح : أن بعض الشيء مغاير لمجموعه ، فلم لا يكفي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف ؟ والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ( الحكم الثاني )

                                                                                                                                                                                                                                            أنه لما كان المراد بقوله ( سبعا من المثاني ) هو الفاتحة ، دل على أن هذه السورة أفضل سور القرآن من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن إفرادها بالذكر مع كونها جزءا من أجزاء القرآن ، لا بد وأن يكون لاختصاصها بمزيد الشرف والفضيلة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه تعالى لما أنزلها مرتين دل ذلك على زيادة فضلها وشرفها .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذا ثبت هذا فنقول : لما رأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واظب على قراءتها في جميع الصلوات طول عمره ، وما أقام سورة أخرى مقامها في شيء من الصلوات دل ذلك على أنه يجب على المكلف أن يقرأها في صلاته وأن لا يقيم سائر آيات القرآن مقامها ، وأن يحترز عن هذا الإبدال فإن فيه خطرا عظيما والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني في تفسير قوله ( سبعا من المثاني ) : أنها السبع الطوال وهذا قول ابن عمر وسعيد بن جبير في بعض الروايات ومجاهد وهي : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة معا . قالوا : وسميت هذه السور مثاني ; لأن الفرائض والحدود والأمثال والعبر ثنيت فيها وأنكر الربيع هذا القول وقال : هذه الآية مكية وأكثر هذه السور السبعة مدنية ، وما نزل شيء منها في مكة ، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            وأجاب قوم عن هذا الإشكال : بأن الله تعالى أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا ، ثم أنزله على نبيه منها نجوما ، فلما أنزله إلى السماء الدنيا ، وحكم بإنزاله عليه ، فهو من جملة ما آتاه ، وإن لم ينزل عليه بعد .

                                                                                                                                                                                                                                            ولقائل أن يقول : إنه تعالى قال ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) وهذا الكلام إنما يصدق إذا وصل ذلك الشيء إلى محمد صلى الله عليه وسلم . فأما الذي أنزله إلى السماء الدنيا وهو لم يصل بعد إلى محمد عليه السلام ، فهذا الكلام لا يصدق فيه . وأما قوله بأنه لما حكم الله تعالى بإنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك جاريا مجرى ما نزل [ ص: 166 ] عليه فهذا أيضا ضعيف ; لأن إقامة ما لم ينزل عليه مقام النازل عليه مخالف للظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث في تفسير السبع المثاني : أنها هي السور التي هي دون الطوال والمئين وفوق المفصل ، واختار هذا القول قوم واحتجوا عليه بما روى ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني المثاني مكان الزبور ، وفضلني ربي بالمفصل " . قال الواحدي : والقول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطوال مثاني .

                                                                                                                                                                                                                                            وأقول : إن صح هذا التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا غبار عليه ، وإن لم يصح فهذا القول مشكل ; لأنا بينا أن المسمى بالسبع المثاني يجب أن يكون أفضل من سائر السور ، وأجمعوا على أن هذه السور التي سموها بالمثاني ليست أفضل من غيرها ، فيمتنع حمل السبع المثاني على تلك السور .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الرابع : أن السبع المثاني هو القرآن كله ، وهو منقول عن ابن عباس في بعض الروايات وقول طاوس قالوا : ودليل هذا القول قوله تعالى : ( كتابا متشابها مثاني ) [الزمر : 23] فوصف كل القرآن بكونه مثاني ، ثم اختلف القائلون بهذا القول في أنه ما المراد بالسبع ؟ وما المراد بالمثاني ؟ أما السبع فذكر فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن القرآن سبعة أسباع .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن القرآن مشتمل على سبعة أنواع من العلوم : التوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والقضاء ، والقدر ، وأحوال العالم ، والقصص ، والتكاليف .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه مشتمل على الأمر والنهي ، والخبر والاستخبار ، والنداء ، والقسم ، والأمثال . وأما وصف كل القرآن بالمثاني ; فلأنه كرر فيه دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف . وهذا القول ضعيف أيضا ; لأنه لو كان المراد بالسبع المثاني القرآن ، لكان قوله : ( والقرآن العظيم ) عطفا للشيء على نفسه ، وذلك غير جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            وأجيب عنه بأنه حسن إدخال حرف العطف فيه ; لاختلاف اللفظين كقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم



                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا وإن كان جائزا لأجل وروده في هذا البيت ، إلا أنهم أجمعوا على أن الأصل خلافه .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الخامس : يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة ; لأنها سبع آيات ، ويكون المراد بالمثاني كل القرآن ويكون التقدير : ولقد آتيناك سبع آيات هي الفاتحة وهي من جملة المثاني الذي هو القرآن وهذا القول عين الأول ، والتفاوت ليس إلا بقليل والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية