الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 2 ] باب الفرائض قال أبو بكر : قد كان أهل الجاهلية يتوارثون بشيئين :

أحدهما : النسب ، والآخر : السبب ، فأما ما يستحق بالنسب فلم يكونوا يورثون الصغار ولا الإناث وإنما يورثون من قاتل على الفرس وحاز الغنيمة ، روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين منهم ، إلى أن أنزل الله تعالى : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن إلى قوله تعالى : والمستضعفين من الولدان وأنزل الله تعالى قوله : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه في الجاهلية في المناكحات والطلاق والميراث إلى أن نقلوا عنه إلى غيره بالشريعة ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر الناس على ما أدركهم من طلاق أو نكاح أو ميراث ؟ قال : لم يبلغنا إلا ذلك .

وروى حماد بن زيد عن ابن عون عن ابن سيرين قال : " توارث المهاجرون والأنصار بنسبهم الذي كان في الجاهلية " . وقال ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال : ما كان من نكاح أو طلاق في الجاهلية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك إلا الربا ، فما أدرك الإسلام من ربا لم يقبض رد إلى البائع رأس ماله وطرح الربا " . وروى حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير قال : " بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم والناس على أمر جاهليتهم إلى أن يؤمروا بشيء أو ينهوا عنه ، وإلا فهم على ما كانوا عليه من أمر جاهليتهم " ، وهو على ما روي عن ابن عباس أنه قال : " الحلال ما أحل الله تعالى والحرام ما حرم الله تعالى ، وما سكت عنه فهو عفو " .

فقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يحظره العقل على ما كانوا عليه ، وقد كانت العرب متمسكة ببعض شرائع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وقد كانوا أحدثوا أشياء منها ما يحظره العقل نحو الشرك وعبادة الأوثان ودفن البنات وكثير من الأشياء المقبحة في العقول ، وقد كانوا على أشياء من مكارم الأخلاق وكثير من المعاملات التي لا تحظرها العقول ، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم داعيا إلى التوحيد وترك ما تحظره العقول من عبادة الأوثان ودفن البنات والسائبة والوصيلة والحامي وما كانوا يتقربون به إلى [ ص: 3 ] أوثانهم ، وتركهم فيما لم يكن العقل يحظره من المعاملات وعقود البياعات والمناكحات والطلاق والمواريث على ما كانوا عليه ؛ فكان ذلك جائزا منهم ؛ إذ ليس في العقل حظره ولم تقم حجة السمع عليهم بتحريمه ، فكان أمر مواريثهم على ما كانوا عليه من توريث الذكور المقاتلة منهم دون الصغار ودون الإناث إلى أن أنزل الله تعالى آي المواريث . وكان السبب الذي يتوارثون به شيئين : أحدهما : الحلف ، والمعاقدة ، والآخر : التبني ، ثم جاء الإسلام فتركوا برهة من الدهر على ما كانوا عليه ثم نسخ فمن الناس من يقول إنهم كانوا يتوارثون بالحلف والمعاقدة بنص التنزيل ثم نسخ .

وقال شيبان عن قتادة في قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : " كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك " قال : " فورثوا السدس في الإسلام من جميع الأموال ثم يأخذ أهل الميراث ميراثهم ، ثم نسخ بعد ذلك فقال الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وروى الحسن بن عطية عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " كان الرجل في الجاهلية يحلف له الرجل فيكون تابعا له ، فإذا مات صار الميراث لأهله وأقاربه وبقي تابعه ليس له شيء ، فأنزل الله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكان يعطى من ميراثه " .

وقال عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وذلك أن الرجل في الجاهلية وفي الإسلام كان يرغب في خلة الرجل فيعاقده فيقول : ترثني وأرثك ، وأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت ، فلما نزلت هذه الآية في قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله نزلت قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد وقد كنت عاقدت رجلا فمات ؟ فنزلت : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا .

فأخبر هؤلاء السلف أن ميراث الحليف قد كان حكمه ثابتا في الإسلام من طريق السمع لا من جهة إقرارهم على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية .

وقال بعضهم : لم يكن ذلك ثابتا بالسمع من طريق الشرع وإنما كانوا مقرين على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية إلى أن نزلت آية المواريث فأزالت ذلك الحكم ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله [ ص: 4 ] تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : " كان حلف في الجاهلية فأمروا أن يعطوهم نصيبهم من المشورة والعقل والنصر ولا ميراث لهم " .

قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا معاذ عن ابن عون عن عيسى بن الحارث عن عبد الله بن الزبير في قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض قال : " نزلت هذه الآية في العصبات ، كان الرجل يعاقد الرجل يقول : ترثني وأرثك ، فنزلت : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض .

قال : وحدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن إبراهيم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : كان الرجل يقول ترثني وأرثك ، فنسختها : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا قال : إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوهم وصية " .

فذكر هؤلاء أن ما كان من ذلك في الجاهلية نسخ بقوله تعالى : وأولو الأرحام وأن قوله تعالى : فآتوهم نصيبهم إنما أريد به الوصية أو المشورة والنصر من غير ميراث ؛ وأولى الأشياء بمعنى الآية تثبيت التوارث بالحلف ؛ لأن قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم يقتضي نصيبا ثابتا لهم ، والعقل والمشورة والوصية ليست بنصيب ثابت ، وهو مثل قوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب المفهوم من ظاهره إثبات نصيب من الميراث ، كذلك قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قد اقتضى ظاهره إثبات نصيب لهم قد استحقوه بالمعاقدة ؛ والمشورة يستوي فيها سائر الناس فليست إذا بنصيب ، فالعقل إنما يجب على حلفائه وليس هو بنصيب له ، والوصية إن لم تكن مستحقة واجبة فليست بنصيب ؛ فتأويل الآية على النصيب المسمى له في عقد المحالفة أولى وأشبه بمفهوم الخطاب مما قال الآخرون .

وهذا عندنا ليس بمنسوخ ، وإنما حدث وارث آخر هو أولى منهم كحدوث ابن لمن له أخ لم يخرج الأخ من أن يكون من أهل الميراث ، إلا أن الابن أولى منه ، وكذلك أولو الأرحام أولى من الحليف ، فإذا لم يكن رحم ولا عصبة فالميراث لمن حالفه وجعله له ؛ وكذلك أجاز أصحابنا الوصية بجميع المال لمن لا وارث له .

وأما الميراث بالدعوة والتبني فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه ، وقد كان ذلك حكما ثابتا في الإسلام ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم تبنى زيد بن حارثة وكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزل الله تعالى : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وقال تعالى : [ ص: 5 ] فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم وقال تعالى : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وقد كان أبو حذيفة بن عتبة تبنى سالما ، فكان يقال له سالم بن أبي حذيفة ، إلى أن أنزل الله تعالى : ادعوهم لآبائهم

رواه الزهري عن عروة عن عائشة ؛ فنسخ الله تعالى الدعوة بالتبني ونسخ ميراثه .

حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبد الله بن صالح عن ليث عن عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني سعيد بن المسيب في قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال ابن المسيب : " إنما أنزل الله تعالى ذلك في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم ، فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة ، وأبى الله أن يجعل للمدعين ميراثا ممن ادعاهم ، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية ، فكان ما تعاقدوا عليه في الميراث الذي رد عليه أمرهم " .

قال أبو بكر : وجائز أن يكون المراد بقوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم منتظما للحلف والتبني جميعا ؛ إذ كل واحد منهما يثبت بالعقد ؛ فهذا الذي ذكرنا كان من مواريث الجاهلية وبقي في الإسلام بعضها بالإقرار عليه إلى أن نقلوا عنه وبعضه بنص ورد في إثباته إلى أن ورد ما أوجب نقله .

وأما مواريث الإسلام فإنها معقودة بشيئين :

أحدهما نسب ، والآخر سبب ليس بنسب ؛ فأما المستحق بالنسب فما نص الله تعالى عليه في كتابه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه وأجمعت الأمة على بعضه وقامت الدلالة على بعض ، وأما السبب الذي ورث به في الإسلام فبعضه ثابت وبعضه منسوخ الحكم . فمن الأسباب التي ورث بها في الإسلام ما ذكرنا في عقد المحالفة وميراث الأدعياء ، وقد ذكرنا حكمه ونسخ ما روي نسخه وأن ذلك عندنا ليس بنسخ وإنما جعل وارث أولى من وارث . وكان من الأسباب التي أوجب الله تعالى به الميراث الهجرة ؛ حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا قال : " كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ، ولا يرث [ ص: 6 ] الأعرابي المهاجر ، فنسختها : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض . وقال بعضهم : نسخها قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون وكانوا يتوارثون بالأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم " .

وروى هشام بن عروة عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك ، فارتث كعب يوم أحد ، فجاء به الزبير يقوده بزمام راحلته ، ولو مات كعب عن الضح والريح لورثه الزبير حتى أنزل الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم

وروى ابن جريج عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " كان المهاجرون والأنصار يرث الرجل الرجل الذي آخى بينه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أخيه ، فلما نزلت هذه الآية : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون نسخت ، ثم قال تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصر ، والرفادة " . فذكر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم أريد به معاقدة الأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم .

وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى : ما لكم من ولايتهم من شيء إن المسلمين كانوا يتوارثون بالهجرة والإسلام ، فكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه ، فنسخ الله تعالى ذلك بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . وروى جعفر بن سليمان عن الحسن قال : كان الأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئا وإن كان ذا قربى ليحثهم بذلك على الهجرة ، فلما كثر المسلمون أنزل الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فنسخت هذه الآية تلك ، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا فرخص الله للمسلم أن يوصي لقرابته من اليهود والنصارى والمجوس من الثلث وما دونه ، كان ذلك في الكتاب مسطورا قال : مكتوبا . فجملة ما حصل عليه التوارث بالأسباب في أول الإسلام التبني والحلف والهجرة والمؤاخاة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخ الميراث بالتبني والهجرة والمؤاخاة ؛ وأما الحلف فقد بينا أنه جعلت القرابة أولى منه ولم ينسخ إذا لم تكن قرابة ، وجائز أن يجعل له جميع ماله أو بعضه ومن الأسباب التي عقد بها التوارث في الإسلام ولاء العتاقة والزوجية وولاء الموالاة ، وهو عندنا يجري مجرى الحلف ، وإنما يثبت حكمه إذا لم يكن وارث من ذي رحم أو عصبة . فجميع ما انعقدت عليه مواريث الإسلام السبب والنسب ، والسبب كان على أنحاء مختلفة : [ ص: 7 ] منها المعاقدة بالحلف والتبني ، والأخوة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والهجرة والزوجية وولاء العتاقة وولاء الموالاة ، فأما إيجاب الميراث بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فمنسوخ مع وجود العصبات وذوي الأرحام ، وولاء العتاقة والموالاة والزوجية هي أسباب ثابتة يستحق بها الميراث على الترتيب المشروط لذلك .

وأما النسب الذي يستحق به الميراث فينقسم إلى أنحاء ثلاثة : ذوو السهام والعصبات وذوو الأرحام ، وسنبين ذلك في موضعه . فأما الآيات الموجبة لميراث ذوي الأنساب من ذوي السهام والعصبات وذوي الأرحام ، فقوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقوله تعالى : وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان نسخ بهما في رواية عن ابن عباس وغيره من السلف ما كان عليه الأمر في توريث الرجال المقاتلة دون الذكور الصغار والإناث .

التالي السابق


الخدمات العلمية