الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 126 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب . وجعله تبيانا لكل شيء وذكرى لأولي الألباب . وأمرنا بالاعتصام به إذ هو حبله الذي هو أثبت الأسباب وهدانا به إلى سبل الهدى ومناهج الصواب وأخبر فيه أنه : { جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرباب وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بجوامع الكلم والحكمة وفصل الخطاب . صلى الله عليه وعلى آله صلاة دائمة باقية بعد إلى يوم المآب . أما بعد : فإن الله قد أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا وأمرنا أن نتبع صراطه المستقيم ولا نتبع السبل فتفرق بنا عن سبيله وجعل هذه الوصية خاتمة وصاياه العشر التي هي جوامع الشرائع التي تضاهي الكلمات التي أنزلها الله على موسى في [ ص: 127 ] التوراة وإن كانت الكلمات التي أنزلت علينا أكمل وأبلغ ; ولهذا قال الربيع بن خثيم : من سره أن يقرأ كتاب محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يفض خاتمه بعده فليقرأ آخر سورة الأنعام : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } الآيات .

                وأمرنا أن لا نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأخبر رسوله أن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء . وذكر أنه جعله على شريعة من الأمر وأمره أن يتبعها ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون . وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } . فأمره أن لا يتبع أهواءهم عما جاءه من الحق وإن كان ذلك شرعا أو طريقا لغيره من الأنبياء فإنه قد جعل لكل نبي سنة وسبيلا وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه فإذا كان هذا فيما جاءت به شريعة غيره فكيف بما لا يعلم أنه جاءت به شريعة بل هو طريقة من لا كتاب له .

                [ ص: 128 ] وأمره وإيانا في غير موضع أن نتبع ما أنزل إلينا دون ما خالفه فقال : { المص } { كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين } { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } .

                وبين حال الذين ورثوا الكتاب فخالفوه والذين استمسكوا به فقال : { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا } إلى قوله : { والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين } وقال : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } الآيات . وقال : { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما } { واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا } وقال : { واعتصموا بحبل الله جميعا } وحبل الله كتابه كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وقال : { واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله } إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي أجمع المسلمون على اتباعها . وهذا مما لم يختلف المسلمون فيه جملة .

                ولكن قد يقع التنازع في تفصيله فتارة يكون بين العلماء المعتبرين في " مسائل الاجتهاد " وتارة يتنازع فيه قوم جهال بالدين أو منافقون [ ص: 129 ] أو سماعون للمنافقين . فقد أخبر الله سبحانه أن فينا قوما سماعين للمنافقين يقبلون منهم كما قال : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } وإنما عداه باللام لأنه متضمن معنى القبول والطاعة كما قال الله على لسان عبده : " سمع الله لمن حمده " أي استجاب لمن حمده وكذلك { سماعون لهم } أي مطيعون لهم . فإذا كان في الصحابة قوم سماعون للمنافقين فكيف بغيرهم .

                وكذلك أخبر عمن يظهر الانقياد لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول : { لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } إلى قوله { سماعون للكذب أكالون للسحت } فإن الصواب أن هذه اللام لام التعدية كما في قوله : { أكالون للسحت } أي قائلون للكذب مريدون له وسامعون مطيعون لقوم آخرين غيرك فليسوا مفردين لطاعة الله ورسوله . ومن قال : إن اللام لام كي أي يسمعون ليكذبوا لأجل أولئك فلم يصب . فإن السياق يدل على أن الأول هو المراد وكثيرا ما يضيع الحق بين الجهال الأميين وبين المحرفين للكلم الذين فيهم شعبة نفاق كما أخبر سبحانه عن أهل الكتاب [ ص: 130 ] حيث قال : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } إلى قوله : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } الآية .

                ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر : أن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه : وجب أن يكون فيهم من يحرف الكلم عن مواضعه فيغير معنى الكتاب والسنة فيما أخبر الله به أو أمر به . وفيهم أميون لا يفقهون معاني الكتاب والسنة بل ربما يظنون أن ما هم عليه من الأماني التي هي مجرد التلاوة ومعرفة ظاهر من القول هو غاية الدين .

                ثم قد يناظرون المحرفين وغيرهم من المنافقين أو الكفار مع علم أولئك بما لم يعلمه الأميون فإما أن تضل الطائفتان ويصير كلام هؤلاء فتنة على أولئك حيث يعتقدون أن ما يقوله الأميون هو غاية علم الدين ويصيروا في طرفي النقيض . وإما أن يتبع أولئك الأميون أولئك المحرفين في بعض ضلالهم . وهذا من بعض أسباب تغيير الملل إلا أن هذا الدين محفوظ . كما قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ولا تزال فيه طائفة قائمة ظاهرة على الحق فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف كتبها وتغيير شرائعها مطلقا ; لما ينطق [ ص: 131 ] الله به القائمين بحجة الله وبيناته الذين يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنوره أهل العمى فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة ; لكيلا تبطل حجج الله وبيناته .

                وكان مقتضى تقديم هذه " المقدمة " أني رأيت الناس في شهر صومهم وفي غيره أيضا : منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب : من أن الهلال يرى أو لا يرى . ويبني على ذلك إما في باطنه وإما في باطنه وظاهره . حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب : إنه يرى أو لا يرى . فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه . وربما أجاز شهادة غير المرضي لقوله . فيكون هذا الحاكم من السماعين للكذب . فإن الآية تتناول حكام السوء كما يدل عليه السياق حيث يقول : { سماعون للكذب أكالون للسحت } وحكام السوء يقبلون الكذب ممن لا يجوز قبول قوله من مخبر أو شاهد . ويأكلون السحت من الرشا وغيرها . وما أكثر ما يقترن هذان .

                وفيهم من لا يقبل قول المنجم لا في الباطن ولا في الظاهر ; لكن في قلبه حسيكة من ذلك وشبهة قوية لثقته به : من جهة أن الشريعة لم تلتفت إلى ذلك لا سيما إن كان قد عرف شيئا من حساب النيرين [ ص: 132 ] واجتماع القرصين ومفارقة أحدهما الآخر بعدة درجات وسبب الإهلال والإبدار والاستتار والكسوف والخسوف . فأجرى حكم الحاسب الكاذب الجاهل بالرؤية هذا المجرى . ثم هؤلاء الذين يخبرون من الحساب وصورة الأفلاك وحركاتها أمرا صحيحا : قد يعارضهم بعض الجهال من الأميين المنتسبين إلى الإيمان أو إلى العدم أيضا فيراهم قد خالفوا الدين في العمل بالحساب في الرؤية أو في اتباع أحكام النجوم في تأثيراتها المحمودة والمذمومة فيراهم لما تعاطوا هذا - وهو من المحرمات في الدين - صار يرد كل ما يقولونه من هذا الضرب . ولا يميز بين الحق الذي دل عليه السمع والعقل والباطل المخالف للسمع والعقل مع أن هذا أحسن حالا في الدين من القسم الأول . لأن هذا كذب بشيء من الحق متأولا جاهلا من غير تبديل بعض أصول الإسلام . والضرب الأول قد يدخلون في تبديل الإسلام .

                فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز . والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة . وقد أجمع المسلمون عليه . ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا ولا خلاف حديث ; إلا أن [ ص: 133 ] بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا . وهذا القول وإن كان مقيدا بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه . فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم .

                وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولا يعمل عليه وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية . وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام وقد برأ الله منها جعفرا وغيره . ولا ريب أن أحدا لا يمكنه مع ظهور دين الإسلام أن يظهر الاستناد إلى ذلك . إلا أنه قد يكون له عمدة في الباطن في قبول الشهادة وردها وقد يكون عنده شبهة في كون الشريعة لم تعلق الحكم به .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية