الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك العادل يافا من الفرنج

وملك الفرنج بيروت من المسلمين وحصر الفرنج تبنين ورحيلهم عنها

في هذه السنة ، في شوال ، ملك العادل أبو بكر بن أيوب مدينة يافا من الساحل [ ص: 145 ] الشامي ، وهي بيد الفرنج - لعنهم الله - .

وسبب ذلك أن الفرنج كان قد ملكهم الكند هري ، على ما ذكرناه قبل ، وكان الصلح قد استقر بين المسلمين والفرنج أيام صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمه الله تعالى - ، فلما توفي وملك أولاده بعده - كما ذكرناه - جدد الملك العزيز الهدنة مع الكند هري [ ملك الفرنج ] وزاد في مدة الهدنة ، وبقي ذلك إلى الآن .

وكان بمدينة بيروت أمير يعرف بأسامة ، وهو مقطعها ، فكان يرسل الشواني تقطع الطريق على الفرنج ، فاشتكى الفرنج من ذلك غير مرة إلى الملك العادل بدمشق ، وإلى الملك العزيز بمصر ، فلم يمنعا أسامة من ذلك ، فأرسلوا إلى ملوكهم الذين داخل البحر يشتكون إليهم ما يفعل بهم المسلمون ، ويقولون : إن لم تنجدونا ، وإلا أخذ المسلمون البلاد ، فأمدهم الفرنج بالعساكر الكثيرة ، وكان أكثرهم من ملك الألمان ، وكان المقدم عليهم قسيس يعرف بالخنصلير ، فلما سمع العادل بذلك ، أرسل إلى العزيز بمصر يطلب العساكر ، وأرسل إلى ديار الجزيرة والموصل يطلب العساكر ، فجاءته الأمداد ، واجتمعوا على عين الجالوت ، فأقاموا شهر رمضان وبعض شوال ، ورحلوا إلى يافا ، وملكوا المدينة ، وامتنع من بها بالقلعة التي لها ، فخرب المسلمون المدينة ، وحصروا القلعة ، فملكوها عنوة وقهرا بالسيف في يومها ، وهو يوم الجمعة ، وأخذ كل ما بها غنيمة وأسرا وسبيا ، ووصل الفرنج من عكا إلى قيسارية ، ليمنعوا المسلمين عن يافا ، فوصلهم الخبر بها بملكها فعادوا .

وكان سبب تأخرهم أن ملكهم الكند هري سقط من موضع عال بعكا فمات ، فاختلت أحوالهم فتأخروا لذلك .

[ ص: 146 ] وعاد المسلمون إلى عين الجالوت ، فوصلهم الخبر بأن الفرنج على عزم قصد بيروت ، فرحل العادل والعسكر في ذي القعدة إلى مرج العيون ، وعزم على تخريب بيروت ، فسار إليها جمع من العسكر ، وهدموا سور المدينة سابع ذي الحجة ، وشرعوا تخريب دورها وتخريب القلعة ، فمنعهم أسامة من ذلك ، وتكفل بحفظها

ورحل الفرنج من عكا إلى صيدا ، وعاد عسكر المسلمين من بيروت ، فالتقوا الفرنج بنواحي صيدا ، وجرى بينهم مناوشة ، فقتل بين الفريقين جماعة ، وحجز بينهم الليل ، وسار الفرنج تاسع ذي الحجة ، فوصلوا إلى بيروت ، فلما قاربوها ، وهرب منها أسامة وجميع من معه من المسلمين ، فملكوها صفوا عفوا بغير حرب ولا قتال ، فكانت غنيمة باردة ، فأرسل العادل إلى صيدا من خرب ما كان بقي منها ، فإن صلاح الدين كان قد خرب أكثرها ، وسارت العساكر الإسلامية إلى صور ، فقطعوا أشجارها ، وخربوا ما لها من قرى وأبراج ، فلقد سمع الفرنج بذلك رحلوا من بيروت إلى صور ، وأقاموا عليها .

ونزل المسلمون عند قلعة هونين وأذن للعساكر الشرقية بالعود ظنا منه أن [ ص: 147 ] الفرنج يقيمون ببلادهم ، وأراد أن يعطي العساكر المصرية دستورا بالعود ، فأتاه الخبر منتصف المحرم ، أن الفرنج قد نازلوا حصن تبنين ، فسير العادل إليه عسكرا يحمونه ويمنعون عنه ، ورحل الفرنج من صور ، ونازلوا تبنين أول صفر سنة أربع وتسعين [ وخمسمائة ] ، وقاتلوا من به ، وجدوا في القتال ، ونقبوه من جهاتهم ، فلما علمالعادل بذلك أرسل إلى العزيز بمصر يطلب منه أن يحضر هو بنفسه ، ويقول له : إن حضرت ، وإلا فلا يمكن حفظ هذا الثغر ، فسار العزيز مجدا فيمن بقي معه من العساكر .

وأقام من بحصن تبنين فإنهم لما رأوا النقوب قد خربت تل القلعة ، ولم يبق إلا أن يملكوها بالسيف ، ونزل بعض من فيها إلى الفرنج يطلب الأمان على أنفسهم وأموالهم ليسلموا القلعة ، وكان المرجع إلى القسيس الخنصلير من أصحاب ملك الألمان ، فقال لهؤلاء المسلمين بعض الفرنج الذين من ساحل الشام : إن سلمتم الحصن أستأسركم هذا وقتلكم ، فاحفظوا نفوسكم ، فعادوا كأنهم يراجعون من في القلعة ليسلموا ، فلما صعدوا إليها أصروا على الامتناع ، وقاتلوا قتال من يحمي نفسه ، فحموها إلى أن وصل الملك العزيز إلى عسقلان في ربيع الأول ، فلما سمع الفرنج بوصوله واجتماع المسلمين ، وأن الفرنج ليس لهم ملك يجمعهم ، وأن أمرهم إلى امرأة - وهي الملكة - اتفقوا وأرسلوا إلى ملك قبرس واسمه هيمري ، فأحضروه ، وهو أخو الملك الذي أسر بحطين ، كما ذكرناه ، فزوجوه بالملكة زوجة الكند هري ، وكان رجلا عاقلا يحب السلامة والعافية ، فلما ملكهم ، لم يعد إلى الزحف على الحصن ، ولا قاتله .

واتفق وصول العزيز أول شهر ربيع الآخر ، ورحل هو والعساكر إلى جبل الخليل الذي يعرف بجبل عاملة ، فأقاموا أياما ، والأمطار متداركة ، فبقي إلى ثالث عشر الشهر ، ثم سار وقارب الفرنج ، وأرسل رماة النشاب ، فرموهم ساعة وعادوا ، ورتب العساكر ليزحف إلى الفرنج ويجد في قتالهم ، فرحلوا إلى صور خامس عشر الشهر المذكور ليلا ، ثم رحلوا إلى عكا ، فسار المسلمون فنزلوا اللجون ، وتراسلوا في الصلح ، وتطاول الأمر ، فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصال الحال .

[ ص: 148 ] وسبب رحيله أن جماعة من الأمراء ، وهم ميمون القصري ، وأسامة ، وسرا سنقر ، والحجاف ، وابن المشطوب ، وغيرهم ، قد عزموا على الفتك به وبفخر الدين جركس مدبر دولته ، وضعهم العادل على ذلك ، فلما سمع بذلك سار إلى مصر وبقي العادل ، وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلح ، فاصطلحوا على أن تبقى بيروت بيد الفرنج ، وكان الصلح في شعبان سنة أربع وتسعين [ وخمسمائة ] فلما انتظم الصلح وعاد العادل إلى دمشق ، وسار منها إلى ماردين من أرض الجزيرة ، فكان ما نذكره - إن شاء الله تعالى - .

التالي السابق


الخدمات العلمية