الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 598 ] سورة العلق

                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: أرأيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى

                                                                                                                                                                                              [قال البخاري ] : قال ابن عباس : حدثني أبو سفيان في حديث هرقل . فقال: يأمرنا - يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة والصدق والعفاف .

                                                                                                                                                                                              حديث أبي سفيان هذا قد خرجه البخاري بتمامه في أول كتابه، وهو يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أهم ما يأمر به أمته الصلاة، كما يأمرهم بالصدق والعفاف، واشتهر ذلك حتى شاع بين الملل المخالفين له في دينه، فإن أبا سفيان كان حين قال ذلك مشركا، وكان هرقل نصرانيا، ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - منذ بعث يأمر بالصدق والعفاف، ولم يزل يصلي - أيضا - قبل أن تفرض الصلاة . وأول ما أنزل عليه سورة: اقرأ باسم ربك وفي آخرها: أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى إلى قوله: كلا لا تطعه واسجد واقترب وقد نزلت هذه الآيات بسبب قول أبي جهل: لئن رأيت محمدا ساجدا عند البيت لأطأن على عنقه . وقد خرج هذا الحديث مسلم في "صحيحه "، وقد ذكرنا في أول كتاب: [ ص: 599 ] "الوضوء" حديث أسامة، أن جبريل نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر، فعلمه الوضوء والصلاة .

                                                                                                                                                                                              وذكر ابن إسحاق : أن الصلاة افترضت عليه حينئذ، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - وخديجة يصليان . والمراد: جنس الصلاة، لا الصلوات الخمس .

                                                                                                                                                                                              والأحاديث الدالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بمكة قبل الإسراء كثيرة . لكن قد قيل: إنه كان قد فرض عليه ركعتان في أول النهار وركعتان في آخره فقط، ثم افترضت عليه الصلوات الخمس ليلة الإسراء، قاله مقاتل وغيره .

                                                                                                                                                                                              وقال قتادة : كان بدء الصلاة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي . وإنما أراد هؤلاء: أن ذلك كان فرضا قبل افتراض الصلوات الخمس ليلة الإسراء . وقد زعم بعضهم: أن هذا هو مراد عائشة بقولها: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، وقالوا: إن الصلوات الخمس فرضت أول ما فرضت أربعا وثلاثا وركعتين على وجهها .

                                                                                                                                                                                              وضعف الأكثرون ذلك، وقالوا: إنما أرادت عائشة فرض الصلوات الخمس ركعتين ركعتين سوى المغرب . [ ص: 600 ] وقد ورد من حديث عفيف الكندي ، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بمكة حين زالت الشمس ومعه علي وخديجة ، وأن العباس قال له: ليس على هذا الدين أحد غيرهم .

                                                                                                                                                                                              وقد خرجه الإمام أحمد والنسائي في "خصائص علي" . وقد طعن في إسناده البخاري في "تاريخه " والعقيلي وغير واحد .

                                                                                                                                                                                              وقد خرج الترمذي من حديث أنس ، قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء . " وإسناده ضعيف .

                                                                                                                                                                                              وقد خرجه الحاكم من حديث بريدة ، وصححه . وفيه دليل على أن الصلاة شرعت من ابتداء النبوة، لكن الصلوات الخمس لم تفرض قبل الإسراء بغير خلاف .

                                                                                                                                                                                              وروى الربيع، عن الشافعي ، قال: سمعت ممن أثق بخبره وعلمه يذكر أن الله تعالى أنزل فرضا في الصلاة، ثم نسخه بفرض غيره، ثم نسخ الثاني بالفرض في الصلوات الخمس .

                                                                                                                                                                                              قال الشافعي : كأنه يعني قول الله عز وجل: يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ثم نسخه في [ ص: 601 ] السورة معه بقوله: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل الآية . إلى قوله: فاقرءوا ما تيسر من القرآن فنسخ قيام الليل، أو نصفه، أو أقل، أو أكثر بما تيسر .

                                                                                                                                                                                              قال الشافعي : ويقال نسخ ما وصف في المزمل بقوله الله عز وجل: أقم الصلاة لدلوك الشمس ودلوك الشمس: زوالها إلى غسق الليل العتمة وقرآن الفجر الصبح ومن الليل فتهجد به نافلة لك فأعلمه أن صلاة الليل نافلة لا فريضة، وأن الفرائض فيما ذكر من ليل أو نهار . قال: ويقال في قول الله عز وجل: فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الصبح وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر . انتهى .

                                                                                                                                                                                              وقد روي عن طائفة من السلف تفسير هاتين الآيتين بنحو ما قاله الشافعي ، فكل آية منهما متضمنة لذكر الصلوات الخمس، ولكنهما نزلتا بمكة بعد الإسراء . والله أعلم

                                                                                                                                                                                              . وقد أجمع العلماء على أن الصلوات الخمس إنما فرضت ليلة الإسراء . واختلفوا في وقت الإسراء: فقيل: كان بعد البعثة بخمسة عشر شهرا، وهذا القول بعيد جدا . وقيل: إنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو أشهر . وقيل: قبل الهجرة بسنة واحدة . وقيل: قبلها بستة أشهر . [ ص: 602 ] وقيل: كان بعد البعثة بخمس سنين، ورجحه بعضهم، قال: لأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة بمدة، قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمس، وقد أجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء .

                                                                                                                                                                                              قلت: حكايته الإجماع على صلاة خديجة معه بعد فرض الصلاة غلط محض، ولم يقل هذا أحد ممن يعتد بقوله .

                                                                                                                                                                                              وقد خرج أبو يعلى الموصلي والطبراني من حديث إسماعيل بن مجالد، عن أبيه عن الشعبي ، عن جابر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن خديجة ; فإنها ماتت قبل أن تنزل الفرائض والأحكام؟ فقال: "أبصرتها على نهر من أنهار الجنة، وفي بيت من قصب، لا لغو فيه ولا نصب " .

                                                                                                                                                                                              وروى الزبير بن بكار ، بإسناد ضعيف، عن يونس عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة .

                                                                                                                                                                                              وقد فرق بعضهم بين الإسراء والمعراج، فجعل المعراج إلى السماوات كما ذكره الله في سورة النجم، وجعل الإسراء إلى بيت المقدس خاصة، كما ذكره الله في سورة (سبحان) وزعم أنهما كانا في ليلتين مختلفتين، وأن الصلوات فرضت ليلة المعراج لا ليلة الإسراء . وهذا هو الذي ذكره محمد بن سعد في "طبقاته " عن الواقدي بأسانيد له متعددة، وذكر أن المعراج إلى السماء كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا من المسجد الحرام، وتلك الليلة فرضت الصلوات الخمس، ونزل جبريل فصلى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 603 ] الصلوات في مواقيتها، وأن الإسراء إلى بيت المقدس كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، من شعب أبي طالب .

                                                                                                                                                                                              وما بوب عليه البخاري أن الصلوات فرضت في الإسراء يدل على أن الإسراء عنده والمعراج واحد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية