الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ولا يكره إلا في حالة واحدة وهو للصائم بعد الزوال لما روى أبو هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك } " والسواك يقطع ذلك فوجب أن يكره ، ولأنه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره إزالته كدم الشهداء ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هريرة هذا رواه البخاري ومسلم وهو بعض [ ص: 330 ] حديث ، والخلوف بضم الخاء واللام وهو تغير رائحة الفم ، ولا يجوز فتح الخاء يقال : خلف فم الصائم بفتح الخاء واللام يخلف بضم اللام ، وأخلف يخلف إذا تغير . أما حكم المسألة : فلا يكره السواك في حال من الأحوال لأحد إلا للصائم بعد الزوال فإنه يكره . نص عليه الشافعي في الأم وفي كتاب الصيام من مختصر المزني وغيرهما ، وأطبق عليه أصحابنا ، وحكى أبو عيسى في جامعه في كتاب الصيام عن الشافعي - رحمه الله - أنه لم ير بالسواك للصائم بأسا أول النهار وآخره ، وهذا النقل غريب وإن كان قويا من حيث الدليل ، وبه قال المزني وأكثر العلماء وهو المختار . والمشهور الكراهة وسواء فيه صوم الفرض والنفل وتبقي الكراهة حتى تغرب الشمس ، وقال الشيخ أبو حامد : حتى يفطر . قال أصحابنا : وإنما فرقنا بين ما قبل الزوال وبعده لأن بعد الزوال يظهر كون الخلوف من خلو المعدة بسبب الصوم لا من الطعام الشاغل للمعدة بخلاف ما قبل الزوال والله أعلم .

                                      ( فرع ) قول المصنف ولأنه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره إزالته كدم الشهداء ، قال أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي علي القلعي - رحمه الله - : قوله مشهود له بالطيب احتراز من بلل الوضوء على أحد الوجهين ومن أثر التيمم وشعر المحرم . وقال غيره : احتراز مما يصيب ثوب العالم من الحبر فإنه وإن كان أثر عبادة لكنه مشهود له بالفضل لا بالطيب ، ودم الشهداء مشهود له بالطيب في قوله صلى الله عليه وسلم : { فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تفجر دما ، اللون لون الدم والريح ريح المسك } " وأما الشهداء فجمع شهيد ، واختلف في سبب تسميته شهيدا فقال الأزهري : لأن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة ، وقال النضر بن شميل : الشهيد الحي ، فسموا بذلك لأنهم أحياء عند ربهم ، وقيل : لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيقبضون روحه ، وقيل : لأنه ممن يشهد يوم القيامة على الأمم . حكى هذه الأقوال الأزهري ، وقيل لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله ، وقيل : لأن له شاهدا بقتله وهو دمه [ ص: 331 ] لأنه يبعث وجرحه يتفجر دما ، وقيل : لأن روحه تشهد دار السلام وروح غيره لا تشهدها إلا يوم القيامة .

                                      ( فرع ) يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم : " { لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك } " وكان وقع نزاع بين الشيخ أبي عمرو بن الصلاح والشيخ أبي محمد بن عبد السلام رضي الله عنهما في أن هذا الطيب في الدنيا والآخرة أم في الآخرة ، فقال أبو محمد : في الآخرة خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية لمسلم : " { والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة } " وقال أبو عمرو : ( هو عام في الدنيا والآخرة ) واستدل بأشياء كثيرة منها ما جاء في المسند الصحيح لأبي حاتم بن حبان بكسر الحاء البستي وهو من أصحابنا المحدثين الفقهاء قال : باب في كون ذلك يوم القيامة . وباب في كونه في الدنيا وروى في هذا الباب بإسناده الثابت أنه صلى الله عليه وسلم قال : " { لخلوف فم الصائم حين يخلف أطيب عند الله من ريح المسك } " . وروى الإمام الحسن بن سفيان في مسنده عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا قال : وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك } " وروى هذا الحديث الإمام الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه وقال : هو حديث حسن ، فكل واحد من الحديثين مصرح بأنه في وقت وجود الخلوف في الدنيا يتحقق وصفه بكونه أطيب عند الله من ريح المسك قال : وقد قال العلماء شرقا وغربا معنى ما ذكرته في تفسيره ، قال الخطابي : ( طيبه عند الله رضاه به وثناؤه عليه ) .

                                      وقال ابن عبد البر معناه أزكى عند الله تعالى وأقرب إليه وأرفع عنده من ريح المسك ، وقال البغوي في شرح السنة : معناه الثناء على الصائم والرضا بفعله ، وكذا قاله الإمام القدوري إمام الحنفية في كتابه في الخلاف معناه أفضل عند الله من الرائحة الطيبة ، ومثله قال البوني من قدماء المالكية ، وكذا قال الإمام أبو عثمان الصابوني وأبو بكر السمعاني وأبو حفص بن الصفار الشافعيون في أماليهم وأبو بكر بن العربي المالكي وغيرهم . [ ص: 332 ] فهؤلاء أئمة المسلمين شرقا وغربا لم يذكروا سوى ما ذكرته ولم يذكر أحد منهم وجها بتخصيصه بالآخرة مع أن كتبهم جامعة للوجوه المشهورة والعربية . ومع أن الرواية التي فيها ذكر يوم القيامة مشهورة في الصحيح . بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدنيا والآخرة ، وأما ذكر يوم القيامة في تلك الرواية فلأنه يوم الجزاء وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلبا لرضى الله تعالى حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات ، فخص يوم القيامة بالذكر في الرواية لذلك كما خص في قوله تعالى : " { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } " وأطلق في باقي الروايات نظرا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين كما سبق تقريره ، هذا مختصر ما ذكره الشيخ أبو عمرو - رحمه الله - .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في السواك للصائم قد ذكرنا أن مذهبنا : المشهور أنه يكره له بعد الزوال وحكاه ابن المنذر عن عطاء ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وحكاه ابن الصباغ أيضا عن ابن عمر والأوزاعي ومحمد بن الحسن ، قال ابن المنذر : ورخص فيه في جميع النهار النخعي وابن سيرين وعروة بن الزبير ومالك وأصحاب الرأي . قال : وروي ذلك عن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ، واحتج القائلون بأنه لا يكره في جميع النهار بالأحاديث الصحيحة في فضله ولم ينه عنه ، واحتجوا بما رواه أبو إسحاق إبراهيم بن البيطار الخوارزمي قال : قلت لعاصم الأحول : أيستاك الصائم أول النهار وآخره ؟ قال : نعم قلت : عمن ؟ قال عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : ولأنه طهارة للفم فلم يكره في جميع النهار كالمضمضة . واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة في الخلوف وهو صحيح كما سبق . [ ص: 333 ] وبحديث عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي ، فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانتا نورا بين عينيه يوم القيامة } " رواه البيهقي ولكنه ضعفه وبين ضعفه ، واحتجوا بما ذكره المصنف أنه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره إزالته كدم الشهيد . وأجابوا عن أحاديث فضل السواك بأنها عامة مخصوصة والمراد بها غير الصائم آخر النهار ، وعن حديث الخوارزمي بأنه ضعيف ، فإن الخوارزمي ضعيف باتفاقهم . وعن المضمضة بأنها لا تزيل الخلوف بخلاف السواك والله أعلم .

                                      ( فرع ) إن قيل ما ذكرتموه من الحديث والمعنى يقتضي فضيلة الخلوف فلم قلتم إنه أفضل من تحصيل فضيلة السواك ؟ فالجواب أنه قد ثبت أن دم الشهيد لا يزال بل يترك للمحافظة عليه غسل الميت والصلاة عليه وهما واجبان فإذا ترك من أجله واجبان دل على رجحانه عليهما لكونه مشهودا له بالطيب ، فالمحافظة على الخلوف الذي يشاركه في الشهادة له بالطيب أولى بالمحافظة ، فإنه إنما يترك من أجله سنة السواك والله أعلم .

                                      ( فرع ) مذهبنا أنه لا يكره للصائم السواك الرطب قبل الزوال إذا لم ينفصل منه شيء يدخل جوفه ، وبه قال جماعات من العلماء ، وكرهه بعض السلف ، وستأتي المسألة مبسوطة حيث ذكرها الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى .




                                      الخدمات العلمية