الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا أسلم عبد لحربي ثم خرج إلينا أو ظهر على الدار فهو حر ، وكذلك إذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرار ) لما روي { أن عبيدا من عبيد الطائف أسلموا وخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بعتقهم وقال : هم عتقاء الله } ولأنه أحرز نفسه بالخروج إلينا مراغما لمولاه أو بالالتحاق بمنعة المسلمين ، إذا ظهر على الدار ، واعتبار يده أولى من اعتبار يد المسلمين ; لأنها أسبق ثبوتا على نفسه ، [ ص: 16 ] فالحاجة في حقه إلى زيادة توكيد وفي حقهم إلى إثبات اليد ابتداء فلهذا كان أولى ، والله أعلم .

التالي السابق


( قوله : وإذا أسلم عبد لحربي ثم خرج إلينا أو ) أسلم ولم يخرج حتى ( ظهر على الدار فهو حر ، وكذا إذا خرج عبيد إلى عسكر المسلمين ) مسلمين ، ولا يعلم فيه خلاف بين أهل العلم ; ( لما روى ) أبو داود مسندا إلى علي قال : { خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قبل الصلح فكتب مواليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا محمد ما خرجوا رغبة في دينك ، وإنما خرجوا هربا من الرق ، فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ردهم عليهم . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه فقال : هم عتقاء الله } وفيه أحاديث قدمناها ، ومنها إسلام عبيد الطائف ، ومنهم أبو بكرة والمنبعث تقدم في كتاب العتق فليرجع إليها فهذا دليل عتقهم إذا خرجوا مسلمين .

وأما عتقهم إذا ظهرنا على الدار بعد إسلامهم فلأنه لما التحق بمنعة المسلمين صار كأنه خرج إليهم في أنه امتنع بهم . وقوله : ( واعتبار يده إلخ ) جواب عن مقدر هو أنه لم يعتق بمجرد إسلامه في دار الحرب اتفاقا ، وإنما الخلاف فيما إذا عرضه للبيع فباعه ، فقد وردت يد الغانمين على مال مباح ; لأن الإسلام لا ينافي استرقاقهم . أجاب أن للعبد يدا على نفسه على ما تقدم ، وإنما لم تظهر لحق المولى ليتمكن من الانتفاع . ثم هي أسبق من يد المسلمين ، أما في المولى الكافر فيستحق الحكم بعتقه تخليصا للمسلم من إذلال الكافر ; لأن مجرد أصل اليد لا يكفي ما لم يتأكد إذ لا قدرة بدونه فكانت منعة الغانمين هي المؤكدة لها فيعتق . هذا ولو أسلم العبد ولم يخرج إلينا ولم يظهر على الدار فهو رقيق إلى أن يشتريه مسلم أو ذمي فيعتق . قال في شرح الطحاوي بعد قوله ولا يثبت ولاء : أي لا يثبت ولاء العبد الخارج إلينا مسلما لأحد ; لأن هذا عتق حكمي ، وإن لم يخرج إلينا ولم يظهر على الدار لم يعتق إلا إذا عرضه المولى على البيع من مسلم أو كافر فحينئذ يعتق العبد قبل المشتري البيع أو لم يقبل ; لأن العبد استحق حق الإعتاق بالإسلام لكنا نحتاج إلى سبب آخر ; ليزول به ملكه عنه ، ولما عرضه فقد رضي بزوال ملكه ، وقيد المراغمة يحترز به عما لو خرج بإذن مولاه أو بأمره لحاجته ، فإنه إذا [ ص: 16 ] خرج كذلك فأسلم في دارنا حكمه أن يبيعه الإمام ويحفظ ثمنه لمولاه الحربي ; لأنه لما دخل بأمان صارت رقبته داخلة فيه ، كما لو دخل سيده به وبما معه من المال .

[ فروع ] . ولو جنى عبد جناية خطأ أو أفسد متاعا فلزمه دينه ثم أسره العدو ثم أسلموا عليه فهو لهم لقوله عليه الصلاة والسلام { من أسلم على مال فهو له } ثم تبطل الجناية دون الدين ; لأن حق ولي الجناية في الرقبة ولا تبقى بعد زوال ملك المولى ، حتى لو زال ملكه بالبيع والهبة لا يبقى فيه حق ولي الجناية ، وأما الدين ففي ذمته فلا يبطل عنه بزوال ملك المولى كما لا يبطل ببيعه . ولو اشتراه رجل أو أصابه المسلمون في الغنيمة فأخذه المولى فكل من الجناية والدين عليه ; لأنه يعيده إلى قديم ملكه وحق ولي الجناية كان ثابتا في قديم ملكه .

ولو كانت الجناية قتل عمد لم تبطل عنه بحال ; لأن المستحق به نفسه فلا تبطل بزوال ملك المولى ، كما لو أعتقه أو باعه بعد لزوم القصاص . ولو وقع العبد المأسور في سهم رجل أو اشتراه فأعتقه قبل أن يحضر المولى نفذ ، ولا سبيل عليه للمولى القديم ; لأنه لم يبق قابلا للنقل من ملك إلى ملك ; ولأن ولاءه لزم للمعتق على وجه لا سبيل إلى إبطاله . ولو كانت أمة فتزوجها وولدت من الزوج بلا عتق للقديم أن يأخذها وولدها ; لأنها بالولادة من الزوج لم تخرج عن كونها قابلة للنقل والولد جزء من عينها فيثبت له حق الأخذ ، بخلاف حق الواهب في الرجوع لا يثبت في الولد ; لأنه حق ضعيف في العين ; ألا ترى أنه لا يبقى بعد تصرف الموهوب له والحق الضعيف لا يعدو محله ، والولد وإن كان جزءا ففي المآل هو محل آخر ، بخلاف حق المولى فإنه قوي لا يبطل ببيعه أو هبته فيسري إلى الولد .

وليس له فسخ النكاح ; لأنه يتمكن من الأخذ بلا فسخ ، والنكاح ألزم من سائر التصرفات فلا يتمكن من نقضه ، ولا سبيل للمولى على ما أخذ من عقرها ، وأرش جناية عليها ، ولو لم يزوجها المشتري فله وطؤها قبل أن يأخذها المولى وثبوت حق أخذه لا يمنع وطء المالك . ولو أسروا جارية مرهونة بألف وهي قيمتها واشتراها رجل أخذها مولاها الراهن بها ولم تبق رهنا ; لأنها تاوية في حق المرتهن فهو كالمجدد لملكها فلا يأخذها المرتهن إلا أن يرد على الراهن الألف ، وإن كان الثمن أقل من الألف كان للمرتهن أن يؤدي ذلك الثمن فتكون رهنا عنده ; لأنه مفيد . ولو أسلم على ما أخذه من مال المسلمين لا سبيل عليه للمالك القديم ، وكذا إذا صار ذميا ، وكذا إذا باعه من حربي آخر ; ولو خرج إلينا بأمان ومعه ذلك المال لا سبيل عليه ، إلا أنه إذا كان عبدا يجبر على بيعه من المسلمين ; لأنه عبد مسلم ولا يمكن الحربي من إعادته إلى دار الحرب ، وإذلاله .

ولو أسروا جارية وديعة عند رجل أو عارية أو إجارة فحق الأخذ إذا أخرجت بشراء أو غنيمة لمالكها ; لأن ثبوت حق الاسترداد للمالك لا لليد ، بخلاف الغاصب من المودع ومن ذكرنا لكل من هؤلاء الاسترداد منه ; لأن كلا منهم قائم مقام المالك في حفظه ولم يزل ملك المالك بالغصب ، بخلاف الإحراز بدار الحرب . ولو كانت متزوجة لا يبطل النكاح ; لأن غاية إحرازها توجب أن يملكوها ، ونقل الملك لا يبطل النكاح كالبيع ، والتباين القاطع له ما هو تباين حقيقة وحكما ، والمسلمة في دار الإسلام حكما ، وإن كانت في دار الحرب حقيقة .




الخدمات العلمية