الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى :

من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا

أي: من كان لا مراد له إلا في ثواب الدنيا؛ ولا يعتقد أن ثم سواه؛ فليس هو كما ظن؛ بل عند الله ثواب الدارين؛ فمن قصد الآخرة أعطاه الله من ثواب الدنيا؛ وأعطاه قصده؛ ومن قصد الدنيا فقط؛ أعطاه من الدنيا ما قدر له؛ وكان له في الآخرة العذاب؛ [ ص: 42 ] والله تعالى سميع للأقوال؛ بصير بالأعمال والنيات.

ثم خاطب تعالى المؤمنين: كونوا قوامين ؛ الآية؛ وهذا بناء مبالغة؛ أي: ليتكرر منكم القيام "بالقسط"؛ وهو العدل؛ وقوله "شهداء"؛ نصب على خبر بعد خبر؛ والحال فيه ضعيفة في المعنى؛ لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط؛ وقوله: "لله"؛ المعنى: لذات الله؛ ولوجهه؛ ولمرضاته؛ وقوله: ولو على أنفسكم ؛ متعلق بـ "شهداء"؛ هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس؛ وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق.

ويحتمل أن يكون قوله: "شهداء لله"؛ معناه: بالوحدانية؛ ويتعلق قوله: ولو على أنفسكم بـ قوامين بالقسط ؛ والتأويل الأول أبين.

وشهادة المرء على نفسه: إقراره بالحقائق؛ وقوله الحق في كل أمر؛ وقيامه بالقسط عليها كذلك؛ ثم ذكر الوالدين؛ لوجوب برهما؛ وعظم قدرهما؛ ثم ثنى بالأقربين؛ إذ هم مظنة المودة والتعصب؛ فجاء الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط؛ ويشهد عليه؛ وهذه الآية إنما تضمنت الشهادة على القرابة؛ فلا معنى للتفقه منها في الشهادة لهم؛ كما فعل بعض المفسرين؛ ولا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية.

وقوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ؛ معناه: إن يكن المشهود عليه غنيا؛ فلا يراعى لغناه؛ ولا يخاف منه؛ وإن يكن فقيرا؛ فلا يراعى إشفاقا عليه؛ فإن الله تعالى أولى بالنوعين؛ وأهل الحالين؛ و"الغني"؛ و"الفقير"؛ اسما جنس؛ فلذلك ثني الضمير في قوله: "بهما"؛ وفي قراءة أبي بن كعب : "فالله أولى بهم"؛ على الجمع؛ وقال الطبري : ثني الضمير لأن المعنى: فالله أولى بهذين المعنيين؛ غنى الغني؛ وفقر الفقير؛ أي: وهو أنظر فيهما؛ وقد حد حدودا؛ وجعل لكل ذي حق حقه؛ وقال قوم: "أو" بمعنى الواو؛ وفي هذا ضعف.

[ ص: 43 ] وذكر السدي أن هذه الآية نزلت في النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ اختصم إليه غني وفقير؛ فكان في ضلع الفقير؛ علما منه أن الغني أحرى أن يظلم الفقير؛ فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط بين الغني والفقير.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وارتبط هذا الأمر على ما قال النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "فأقضي له على نحو ما أسمع"؛ أما إنه قد أبيح للحاكم أن يكون في ضلع الضعيف؛ بأن يعتد له المقالات؛ ويشد على عضده؛ ويقول له: قل حجتك؛ مدلا؛ وينبهه تنبيها لا يفت في عضد الآخر؛ ولا يكون تعليم خصام؛ هكذا هي الرواية عن أشهب؛ وغيره؛ وذكر الطبري أن هذه الآية هي بسبب نازلة طعمة بن أبيرق؛ وقيام من قام في أمره بغير القسط.

وقوله تعالى : فلا تتبعوا الهوى ؛ نهي بين؛ واتباع الهوى مرد؛ مهلك؛ وقوله تعالى : أن تعدلوا ؛ يحتمل أن يكون معناه: "مخافة أن تعدلوا"؛ ويكون العدل هنا بمعنى العدول عن الحق؛ ويحتمل أن يكون معناه: "محبة أن تعدلوا"؛ ويكون العدل بمعنى القسط؛ كأنه قال: "انتهوا خوف أن تجوروا"؛ أو "محبة أن تقسطوا"؛ فإن [ ص: 44 ] جعلت العامل "تتبعوا"؛ فيحتمل أن يكون المعنى: "محبة أن تجوروا".

وقوله تعالى : وإن تلووا أو تعرضوا ؛ قال ابن عباس : هو في الخصمين؛ يجلسان بين يدي القاضي؛ فيكون لي القاضي؛ وإعراضه؛ لأحدهما على الآخر؛ فاللي - على هذا - مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي عليه؛ وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك؛ والله حسيب الكل؛ وقال ابن عباس أيضا؛ ومجاهد ؛ وقتادة ؛ والسدي ؛ وابن زيد ؛ وغيرهم: هي في الشاهد؛ يلوي الشهادة بلسانه؛ ويحرفها؛ فلا يقول الحق فيها؛ أو يعرض عن أداء الحق فيها.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة؛ والتوسط بين الناس؛ وكل إنسان مأخوذ بأن يعدل؛ والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاء؛ فتأمله.

وقرأ جمهور الناس: "تلووا" بواوين؛ من: "لوى؛ يلوي"؛ على حسب ما فسرناه؛ وقرأ حمزة ؛ وابن عامر ؛ وجماعة في الشاذ: "وإن تلوا"؛ بضم اللام؛ وواو واحدة؛ وذلك يحتمل أن يكون أصله: "تلئوا"؛ على القراءة الأولى؛ همزت الواو المضمومة؛ كما همزت في "أدؤر"؛ وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء "لوى"؛ ثم حذفت لاجتماع ساكنين؛ ويحتمل أن تكون "تلوا"؛ من قولك: "ولي الرجل الأمر"؛ فيكون في الطرف الآخر من "تعرضوا"؛ كأنه قال تعالى للشهود وغيرهم: "وإن وليتم الأمر؛ أو أعرضتم عنه"؛ فالله خبير بفعلكم؛ ومقصدكم فيه؛ فالولاية والإعراض طرفان؛ واللي والإعراض في طريق واحد؛ وباقي الآية وعيد.

التالي السابق


الخدمات العلمية