الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والجهمية : هم المنتسبون إلى جهم بن صفوان الترمذي ، وهو الذي أظهر نفي الصفات والتعطيل ، وهو أخذ ذلك عن الجعد بن درهم ، الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط ، فإنه خطب الناس في يوم عيد الأضحى ، وقال : أيها الناس ، ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ! ثم نزل فذبحه . وكان ذلك بعد استفتاء علماء زمانه ، وهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى .

وكان جهم بعده بخراسان ، فأظهر مقالته هناك ، وتبعه عليها ناس ، [ ص: 795 ] بعد أن ترك الصلاة أربعين يوما شكا في ربه ! وكان ذلك لمناظرته قوما من المشركين ، يقال لهم السمنية ، من فلاسفة الهند ، الذين ينكرون من العلم ما سوى الحسيات ، قالوا له : هذا ربك الذي تعبده ، هل يرى أو يشم أو يذاق أو يلمس ؟ فقال : لا ، فقالوا : هو معدوم ! ! فبقي أربعين يوما لا يعبد شيئا ، ثم لما خلا قلبه من معبود يألهه ، نقش الشيطان اعتقادا نحته فكره ، فقال : إنه الوجود المطلق ! ! ونفى جميع الصفات ، واتصل بالجعد .

وقد قيل : إن الجعد كان قد اتصل بالصابئة الفلاسفة من أهل حران ، وأنه أيضا أخذ شيئا عن بعض اليهود المحرفين لدينهم ، المتصلين بلبيد بن الأعصم ، الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم . فقتل جهم بخراسان ، قتله سلم بن أحوز ولكن كانت قد فشت مقالته في الناس ، وتقلدها بعده المعتزلة . ولكن كان الجهم أدخل في التعطيل منهم ، لأنه ينكر الأسماء حقيقة ، وهم لا ينكرون الأسماء بل الصفات .

وقد تنازع العلماء في الجهمية : هل هم من الثنتين وسبعين فرقة أم لا ؟ ولهم في ذلك قولان : وممن قال إنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة - عبد الله بن المبارك ، ويوسف بن أسباط .

[ ص: 796 ] وإنما اشتهرت مقالة الجهمية من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة ، فإنه من إمارة المأمون قووا وكثروا ، فإنه كان قد أقام بخراسان مدة واجتمع بهم ، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمان عشرة ومائتين وفيها مات ، وردوا الإمام أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين ، وفيها كانت محنته مع المعتصم ومناظرته لهم بالكلام ، فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه ، وبين أنه لا حجة لهم في شيء من ذلك ، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم - : جهل وظلم ، وأراد المعتصم إطلاقه ، أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه ، لئلا تنكسر حرمة الخلافة مرة بعد مرة ! فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة ، وخافوا ، فأطلقوه . وقصته مذكورة في كتب التاريخ .

ومما انفرد به جهم : أن الجنة والنار تفنيان ، وأن الإيمان هو المعرفة فقط ، والكفر هو الجهل فقط ، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده ، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز ، كما يقال تحركت الشجرة ، ودار الفلك ، وزالت الشمس ! ولقد أحسن القائل :


عجبت لشيطان دعا الناس جهرة إلى النار واشتق اسمه من جهنم

وقد نقل أن أبا حنيفة رحمه الله ، لما سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام ؟ فقال : لعن الله عمرو بن عبيد ، هو فتح على الناس الكلام في هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية