الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 15 ] ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون

                          قال الأستاذ الإمام : إن صح ما ورد في سبب نزول هذه الآيات فالمراد بالكفر في قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين هو العداوة والبغضاء التي كان الكفر سببها ، كما أن المراد بالإيمان على هذا هو الألفة والمحبة التي هي ثمرة يانعة من ثمرات الإيمان ، وإذا لم ننظر إلى ما ورد من السبب فالمعنى : وضعوها لأنفسهم ، فإذا أطعتموهم وسلكتم مسالكهم فإنكم تكفرون بعد إيمانكم .

                          أقول : ويجوز أن يراد بالكفر على الوجه الأول : حقيقته ، كأنه يقول : إنكم إذا أصغيتم إلى ما يلقيه هؤلاء اليهود من مثيرات الفتن واستجبتم لما يدعونكم إليه فكنتم طائعين لهم فإنهم لا يقنعون منكم بالعود إلى ما كنتم عليه من العداوة والبغضاء ، بل يتجاوزون إلى ما وراء ذلك ، وهو أن يردوكم إلى الكفر ، ويؤيد هذا قوله - تعالى - : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم [ 2 : 109 ] الآية . وقوله في هذه السورة : ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم [ 3 : 69 ] ولا يمنع الإنسان من إتيان ما يود إلا عجزه . وإذا كان هذا جائزا - وهو الظاهر على الوجه الأول - فهو متعين على [ ص: 16 ] الوجه الثاني . أما اتصال الآية بما قبلها على هذا فظاهر جلي ، فإنه بعد ما وبخ أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله - وهو الإسلام ، آثر إقامة الحجج عليهم وإزالة شبهاتهم - ناسب أن يخاطب المؤمنين مبينا لهم أن من كان هذا شأنهم في الكفر ، وهذا شأن ما دعوا إليه في ظهور حقيقته ، لا ينبغي أن يطاعوا ولا أن يسمع لهم قول ، فإنهم دعاة الفتنة ورواد الكفر ; ولذلك قال : وكيف تكفرون بطاعتهم واتباع أهوائهم وأنتم تتلى عليكم آيات الله وهي روح الهداية وحفاظ الإيمان وفيكم رسوله يبين لكم ما أنزل إليكم ، ولكم في سنته وإخلاصه خير أسوة تغذي إيمانكم وتنير برهانكم ، فهل يليق بمن أوتوا هذه الآيات ، ووجد فيهم الرسول الحكيم الرءوف الرحيم أن يبتغوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا ، حتى استحوذ عليهم الشيطان ، وغلب عليهم البغي والعدوان ، وعرفوا بالكذب والبهتان ؟ فالاستفهام في الآية للإنكار والاستبعاد ومن يعتصم بالله وبكتابه يكون الاعتصام إذن هو حبله الممدود . ورسوله هو الوسيلة إليه وهو ورده المورود فقد هدي إلى صراط مستقيم لا يضل فيه السالك ، ولا يخشى عليه من المهالك ، فلا تروج عنده الشبهات ، ولا تروق في عينه الترهات ، وقد جاء جواب الشرط بصيغة الماضي المحقق للإشعار بأن من يلتجئ إليه - تعالى - ويعتصم بحبله فقد تحققت هدايته وثبتت استقامته .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية