الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                فأما إذا أقر بوارث بعد وارث بأن أقر بوارث ثم أقر بوارث آخر فالأصل في هذا الإقرار أنه إن صدق المقر بوراثة الأول وفي إقراره بالوراثة للثاني فالمال بينهم على فرائض الله تعالى ، وإن كذبه فيه فإن كان المقر دفع نصيب الأول إليه بقضاء القاضي لا يضمن ويجعل ذلك كالهالك ، ويقسمان على ما في يد المقر على قدر حقهما ، وإن كان الدفع بغير قضاء القاضي يضمن ويجعل المدفوع كالقائم في يده فيعطى الثاني حقه من كل المال .

                                                                                                                                بيان هذه الجملة فيمن هلك وترك ابنا فأقر بأخ له من أبيه وأمه فإنه يدفع إليه نصف الميراث لما ذكرنا أن إقراره بالإخوة صحيح في حق الميراث ، فإن أقر بأخ آخر فهذا على وجهين : إما أن أقر به بعدما دفع إلى الأول ، وإما إن أقر قبل أن يدفع إلى الأول نصيبه ، فإن أقر به بعد ما دفع إلى الأول نصيبه فإن كان الدفع بقضاء القاضي فللثاني ربع المال ويبقى في يد المقر الربع ; لأن الربع في القضاء في حكم الهالك لكونه مجبورا في الدفع فيكون الباقي بينهما نصفين ; لأن في زعم المقر أن الثاني يساويه في استحقاق الميراث فيكون لكل واحد منهما نصف النصف وهو ربع الكل .

                                                                                                                                وكذلك إذا كان لم يدفع إلى الأول شيئا ; لأن نصف المال صار مستحق الصرف إليه والمستحق كالمصروف كان دفع إليه بغير قضاء القاضي أعطى الثاني ثلث جميع المال لما ذكرنا أن الدفع بغير قضاء مضمون عليه ، والمضمون كالقائم فيدفع ثلث جميع المال إليه ويبقى في يده الثلث فإن دفع ثلث المال إلى الثاني بعد قضاء القاضي ثم أقر بأخ ثالث وكذبه الثالث في الإقرار بالأولين أخذ الثالث من الابن المعروف ربع جميع المال ; لأن كل المال قائم معنى ; لأن الدفع بغير القضاء مضمون على الدافع فيأخذ السدس الذي في يد المقر ونصف سدس آخر ; لأن الدفع إلى الأولين من غير قضاء القاضي لم يصح في حق الثالث فيضمن له قدر نصف سدس فيدفعه مع السدس الذي في يده إليه وعلى هذا إذا ترك ابنين فأقر أحدهما بأخ ثم أقر بأخ آخر فإن صدقه الابن المعروف اشتركوا في الميراث ، وإن كذبه فإن صدقه المقر بوراثته الأول فنصف المال بينهم أثلاث لأن إقراره بالوراثة في حقه وفي حق المقر بوراثته الأول صحيح لكنه لم يصح في حق الابن المعروف وكان النصف للابن المعروف ، والنصف الباقي بينهم أثلاثا وإن كذبه فإن كان المقر دفع نصف ما في يده وهو ربع جميع المال إليه بقضاء القاضي كان الباقي بينه وبين الثاني نصفين ; لأن الدفع بقضاء القاضي في حكم الهالك فكان الباقي بينهما نصفين لكل واحد ثمن المال ، وإن كان دفع إليه بغير قضاء القاضي فإن كان المقر يعطي الثاني مما في يده وهو ربع المال سدس جميع المال ; لأن الدفع بغير قضاء مضمون على الدافع فيكون ذلك الربع كالقائم .

                                                                                                                                ولو أقر أحدهما بأخت ودفع إليها نصيبها ثم أقر بأخت أخرى وكذبه الأخ فإن صدقته الأخت الأولى فنصف المال للأخ المنكر والنصف بين الأخ المقر وبين الأختين للذكر مثل حظ الأنثيين ، وإن كذبته فإن كان دفع إليها نصيبها وهو ثلث النصف ، وذلك سدس الكل بقضاء والباقي بين المقر وبين الأخت الأخرى للذكر مثل حظ الأنثيين لما مر أن المدفوع بغير قضاء في حكم الهالك فلا يكون مضمونا على الدافع ، وإن كان الدفع بغير قضاء فإن المقر يعطي للأخت الأخرى مما في يده نصف ربع جميع المال لأن الدفع بغير القضاء إتلاف فصار كأنه قائم في يده وقد أقر بأختين ولو كان كذلك يكون لهما ربع جميع المال لكل واحدة الثمن كذلك ههنا يعطي الأخت الأخرى مما في يده نصف ربع جميع المال ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم لو أقر أحدهما بامرأة لأبيه ثم أقر بأخرى فإن أقر بهما معا فذلك التسعان لهما جميعا وهذا ظاهر ; لأن فرض الزوجات لا يختلف بالقلة والكثرة ، وإن أقر بالأولى ودفع إليها ثم [ ص: 232 ] بالأخرى فإن صدقته الأولى فكذلك الجواب وإن كذبته فالنصف للأخ المنكر وتسعان للأولى فبقي هناك الابن المعروف والمرأة الأخرى فينظر إن كان دفع التسعين إلى الأولى بالقضاء يجعل ذلك كالهالك ويجعل كأن لم يكن له مال سوى الباقي وهو سبعة أسهم ، فيكون ذلك بين الابن المقر وبين المرأة الأخرى على ثمانية أسهم : ثمن من ذلك للمرأة وسبعة للابن المقر وإن كان دفع إليها بغير قضاء يعطي من التسعة التي هي عنده سهما للمرأة الأخرى وهو سبع نصف جميع المال لأن المدفوع كالقائم عنده ولو كان نصف المال عنده قائما يعطي الأخرى التسع وذلك سهم ; لأن المقر به ثمن المال للمرأتين جميعا ، والثمن هو تسعان تسع للأولى وتسع للأخرى إلا أن الأولى ظلمت حيث أخذت زيادة سهم ، وذلك الظلم حصل على الأخ المقر لأنه هو الذي دفع بغير قضاء القاضي فيدفع التسع الثاني إلى الأخرى وهو سبع نصف المال والباقي للابن وهو ستة أسهم ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                ولو مات رجل وترك ابنا معروفا وألف درهم في يده فادعى رجل على الميت ألف درهم فصدقه الابن أو نكل عن اليمين فدفع إلى الغريم ذلك ثم ادعى رجل آخر على الميت ألف درهم فصدقه الابن أو نكل عن اليمين فإن كان دفع إلى الأول بقضاء لم يضمن للثاني شيئا ; لأنه في الدفع مجبور فكان في حكم الهالك ، وإن كان بغير قضاء يضمن للثاني نصف المال لأنه مختار في الدفع فكان إتلافا فيضمن ، كما إذا أقر لهما ثم دفع إلى أحدهما ولو مات وترك ألف درهم فأقر بأخ ثم رجع وقال لست بأخ لي وإنما أخي هذا الرجل الآخر وصدقه الآخر بذلك وكذبه في الإقرار الأول ، فإن كان دفع النصف إلى الأول بقضاء يشاركه الثاني فيما في يده فيقتسمان نصفين ; لما بينا أن الدفع بقضاء في حكم الهلاك ، وإن كان بغير قضاء يدفع جميع ما في يده وهو نصف المال إلى الآخر لما بينا .

                                                                                                                                ولو مات وترك ابنا وألف درهم فادعى رجل على الميت ألف درهم فصدقه الوارث ودفع إليه بقضاء أو بغير قضاء وادعى رجل آخر على الميت دينا ألف درهم وكذبه الوارث وصدقه الغريم الأول وأنكر الغريم الثاني دين الغريم الأول لم يلتفت إلى إنكاره ويقتسمان الألف بينهما نصفين ; لأن استحقاق الغريم الثاني إنما يثبت بإقرار الغريم الأول وهو يصدقه ، وهو ما أقر له إلا بالنصف وكذلك لو أقر الغريم الثاني لغريم ثالث فإن الغريم الثالث يأخذ نصف ما في يده لما قلنا ولومات وترك ألفا في يد رجل فقال الرجل : أنا أخوه لأبيه وأمه وأنت أخوه لأبيه وأمه وأنكر المقر به أن يكون المقر أخا له فالقول قول المقر استحسانا على ما بينا ولو قال المقر للمقر به : أنا وأنت أخواه لأبيه وأمه ولي عليه ألف درهم دين وأنكر المقر به الدين فالمال بينهما نصفان ; لأن دعوى الدين دعوى أمر عارض مانع من الإرث فلا يثبت إلا بحجة .

                                                                                                                                ولو مات وترك ابنا وألف درهم فادعى رجل على الميت ألف درهم فصدقه الوارث بذلك ودفع إليه ثم ادعى رجل آخر أن الميت أوصى له بثلث ماله أو ادعى أنه ابن الميت وصدقهما بذلك الابن المعروف وكذباه فيما أقر فإن كان دفع بغير قضاء فلا ضمان على الدافع ; لأن الإرث والوصية مؤخران عن الدين فإقراره لم يصح في حق ثبات النسب ، وإنما يصح في حق الميراث ولم يوجد الميراث ولو أقر لهما أول مرة ودفع إليهما ثم أقر للغريم كان للغريم أن يضمنه ما دفع إلى الأولين ; لأن الدين مقدم فإذا دفع بغير قضاء فقد أتلف على الغريم حقه ، وإن كان الدفع بقضاء لا ضمان عليه لما بينا ولو ثبت الوصية أو الميراث بالبينة بقضاء أو بغير قضاء ثم أقر الغريم بدينه فلا ضمان عليه للغريم فيما دفعه إلى الوارث والموصى له لأنه لما قامت البينة على الميراث أو الوصية فقد ظهر أنه وارث معروف أو موصى له فالإقرار بالدين لا يوجب بطلان حقهما ولو لم يكن دفع إليه لا يجوز له أن يدفع إلى الغريم ويجبره القاضي على الدفع إلى الوارث والموصى له لما قلنا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية