الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              346 [ 173 ] وعن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري - وكانت له صحبة - قال : قيل له : توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فدعا بإناء فأكفأ منه على يديه ، فغسلهما ثلاثا ، ثم أدخل يده فاستخرجها ، فمضمض واستنشق من كف واحدة ، ففعل ذلك ثلاثا ، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا ، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين ، مرتين مرتين ، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر ، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ، ثم قال : هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                              زاد في أخرى : فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ، ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه .

                                                                                              وفي أخرى : فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات . وفيها : فمسح برأسه فأقبل به وأدبر مرة واحدة .

                                                                                              وفي أخرى : ومسح برأسه بماء غير فضل يديه ، وغسل رجليه حتى أنقاهما .

                                                                                              رواه أحمد ( 4 \ 39 ) ، والبخاري ( 285 ) ، ومسلم ( 235 ) و ( 236 ) ، وأبو داو ( 118 - 120 ) ، والترمذي ( 35 و 47 ) ، والنسائي ( 1 \ 71 - 72 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله في حديث عبد الله بن زيد : " وقيل له : توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتوضأ " . المعلم للوضوء إذا نوى به رفع الحدث أجزأه ، فإن لم ينو ، لم يجزه عند من يشترط النية على ما يأتي ، وكذلك المتعلم .

                                                                                              [ ص: 485 ] و (قوله : " فغسلهما ثلاثا ") حجة لأشهب في اختياره في غسلهما الإفراغ عليهما معا ، وقد روى ابن القاسم عن مالك : أنه استحب أن يفرغ على يده اليمنى فيغسلها ، ثم يدخلها ويصب بها على اليسرى ، محتجا بقوله في " الموطأ " في هذا الحديث : " فأفرغ على يديه وغسلهما مرتين مرتين " . وقد يكون منشأ الخلاف في هذا الفرع الخلاف في غسلهما ، هل هو عادة فيغسل كل عضو منهما بانفراده كسائر الأعضاء ؟ أو هو للنظافة فتغسلان مجتمعين .

                                                                                              و (قوله : " فمضمض واستنشق من كف واحدة ، فعل ذلك ثلاثا ") أي : جمع بين المضمضة والاستنشاق في كف واحدة . وفعل ذلك ثلاثا من ثلاث غرفات ، كما بينه في رواية ابن وهب ، فإنه قال : " فمضمض واستنشق من ثلاث غرفات " . وقد اختلف في الأولى من ذلك عن مالك والشافعي ، فقيل : الأولى عندهما : جمعهما في غرفة واحدة ، والإتيان بها كذلك في ثلاث غرفات ، وقيل : بل الأولى عندهما إفراد كل واحدة منهما متفرقين بثلاث غرفات ، ويشهد للأولى رواية ابن وهب ، والثاني ما في كتاب أبي داود من قوله : " فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق " . قيل : بل يفعلان معا ثلاث مرات من غرفة واحدة ، كما روى البخاري قال : " فمضمض واستنشق ثلاثا من غرفة " .

                                                                                              و (قوله : " ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ") ظاهره : أنه أدخل يده الواحدة في الماء فأفرغ بها على اليسرى . وهو أحد القولين عندنا ، وأنه كذلك [ ص: 486 ] يفعل في جميع الأعضاء . وفي البخاري في بعض طرق هذا الحديث : " ثم أدخل يديه فاغترف بهما " . وهذا حجة لاختيار مالك في هذه المسألة ، وكذلك القول في غرفة مسح الرأس .

                                                                                              وفي البخاري : " ثم أخذ بيديه ماء فمسح برأسه " . واختلف عن مالك في حد الوجه طولا وعرضا . فأما الطول فمن منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن مطلقا ، للأمرد والملتحي . وقيل : إلى آخر اللحية للملتحي . وأما حده عرضا ; فمن الأذن إلى الأذن . وقيل : من العذار إلى العذار ، وقيل : بالفرق بين الأمرد والملتحي ، وسبب هذا الخلاف : الاختلاف في اسم الوجه والمواجهة على ماذا يقعان ؟

                                                                                              و (قوله : " فغسل يديه إلى المرفقين ") المرفق : هو العظم الناتئ في آخر الذراع ، سمي بذلك ; لأنه يرتفق عليه ، أي : يتكأ ويعتمد . واختلف فيهما : هل يدخلان في الغسل أم لا ؟

                                                                                              وسببه : توهم الاشتراك في " إلى " وذلك أنها لانتهاء الغاية في الأصل ، وقد تأتي بمعنى : " مع " في مثل قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم [ النساء : 2 ] ، وفي قوله تعالى : من أنصاري إلى الله [ آل عمران : 52 ] . وفي قول العرب : " الذود إلى الذود إبل " ، والأصل فيها : انتهاء الغاية ، فيجب أن تحمل عليه . ويمكن أن يقال : إن " إلى " وإن كانت لانتهاء الغاية فهي محتملة لدخول الغاية فيما قبلها ، والذي يرفع الخلاف فيها ما حكي عن سيبويه : أن الغاية إن كانت من جنس ذي الغاية دخلت فيه ، وإن لم تكن لم تدخل ، مثال ذلك : أن تقول : بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة ، والمبيع شجر ، فلا شك في دخول [ ص: 487 ] الشجرتين في جملة الشجر المبيعة ، وإن كان المبيع أرضا لم يدخلا ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (قوله : " فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ") دليل على عدم كراهة الشفع في الغسلات ، ولا خلاف أنه يجوز الاقتصار على الواحدة إذا أسبغ ، وأن الاثنتين أفضل من الاقتصار على الواحدة ، وأن الثلاث أفضل من الاثنتين ، وأن الزيادة على الثلاث ممنوعة ، إلا أن يفعل بنية تجديد الوضوء ، فإن أبا حنيفة أجاز ذلك ، وعندنا أنه لا يصح له التجديد حتى يفعل بذلك الوضوء صلاة ، وسيأتي . وقد كره مالك الاقتصار على الواحدة للجاهل ; لما يخاف من تفريطه ، وللعالم لئلا يقتدي به الجاهل .

                                                                                              و (قوله : " فمسح برأسه ") الباء في " برأسه " باء التعدية ; أي : التي يجوز حذفها وإثباتها ، كقولك : مسحت برأس اليتيم ، ومسحت رأسه ، وسميت ابني بمحمد ومحمدا ، ولا يصح أن تكون للتبعيض ، خلافا للشافعي ; لأن المحققين من أئمة النحويين البصريين وأكثر الكوفيين أنكروا ذلك ، ولأنها لو كانت للتبعيض لكان قولك : " مسحت برأسه " كقولك : " مسحت ببعض رأسه " ، ولو كان كذلك لما حسن أن تقول : " مسحت ببعض رأسه " ، ولا " برأسه بعضه " ; لأنه كان يكون تكريرا ، ولا " مسحت برأسه كله " ; لأنه : كان يكون مناقضا له ، ولو كانت للتبعيض لما جاز إسقاطها هنا ; فإنه يقال : مسحت برأسه ، ومسحت رأسه بمعنى واحد ، وأيضا فلو كانت مبعضة في مسح الرأس في الوضوء لكانت مبعضة في مسح [ ص: 488 ] الوجه في التيمم ; لتساوي اللفظين في المحلين ، ولم لا فلا ، ومذهب مالك رحمه الله وجوب عموم مسح الرأس تمسكا باسم الرأس ، فإنه للعضو بجملته كالوجه ، وتمسكا بهذه الأحاديث ، ثم نقول : نحن وإن تنزلنا على أن " الباء " تكون مبعضة وغير مبعضة ، فذلك يوجب فيها إجمالا أزاله النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله ، فكان فعله بيانا لمجمل واجب ، فكان مسحه كله واجبا ، وسيأتي القول في حديث المغيرة الذي ذكر فيه أنه - عليه الصلاة والسلام - : مسح مقدم رأسه وعلى عمامته .

                                                                                              و (قوله : " فأقبل بيديه وأدبر ") معناه : أقبل إلى جهة قفاه ، والإدبار : رجوعه إلى حيث بدأ ، كما فسره حيث قال : " فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه " . وقيل : المراد : أدبر وأقبل ; لأن الواو لا تعطي رتبة . وفي البخاري : " فأدبر بهما وأقبل " ، وهذا أولى لهذا النص . وقيل : معنى أقبل : دخل في قبل الرأس ، كما يقال : أنجد وأتهم : إذا دخل نجدا وتهامة .

                                                                                              وقيل : معناه : أنه ابتدأ من الناصية مقبلا إلى الوجه ، ثم ردهما إلى القفا ، ثم رجع إلى الناصية . وهذا ظاهر اللفظ . والإقبال والإدبار مسحة واحدة ; لأنها بماء واحد ، والمقصود بالردة على الرأس : المبالغة في استيعابه .

                                                                                              و (قوله : " ثم غسل رجليه إلى الكعبين ") الكعب في اللغة : هو العظم الناشز [ ص: 489 ] عند ملتقى الساق والقدم ، وأنكر الأصمعي قول الناس : إن الكعب في ظهر القدم ، قاله في الصحاح ، والأول هو المشهور عند أهل المذهب والفقهاء . وقد روي عن ابن القاسم : أنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك ، والأول هو الصحيح المعروف .

                                                                                              و (قوله : " ومسح رأسه بماء غير فضل يديه ") دليل على مشروعية تجديد الماء لمسح الرأس ، وأنه سنة ، خلافا للأوزاعي والحسن وعروة في تجويزهم مسحه ابتداء بما فضل في يديه .

                                                                                              ولم يجئ في هذا الحديث ولا في حديث عثمان للأذنين ذكر ، ويمكن أن يكون ذلك ; لأن اسم الرأس تضمنهما . وقد جاءت الأحاديث صحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما ، وأدخل أصابعه في صماخيه ، وسيأتي ذكرهما .

                                                                                              [ ص: 490 ] وهذه الأحاديث أعني حديث عثمان وعبد الله تدل على مراعاة الترتيب في الوضوء والموالاة . وقد اختلف أهل المذهب في ذلك وغيرهم على ثلاثة أقوال : الوجوب ، والسنة ، والاستحباب ، والأولى القول بالسنة فيهما ; إذ لم يصح قط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ منكسا ولا مفرقا تفريقا متفاحشا ، وليس في آية الوضوء ما يدل على وجوبهما ، وما ذكر من أن الواو ترتب لا يصح ، ومما يدل على بطلان ذلك وقوعها في موضع يستحيل فيه الترتيب ، وذلك باب المفاعلة ، فإنها لا تكون إلا من اثنين ، فإن العرب تقول : تخاصم زيد وعمرو ، ولا يجوز أن يكون هنا ترتيب ، ولا أن يقع موقعها حرف من حروف الترتيب بوجه من الوجوه ، فصح ما قلناه .




                                                                                              الخدمات العلمية