الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          188 حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف البصري حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر قال أبو عيسى وحنش هذا هو أبو علي الرحبي وهو حسين بن قيس وهو ضعيف عند أهل الحديث ضعفه أحمد وغيره والعمل على هذا عند أهل العلم أن لا يجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرفة ورخص بعض أهل العلم من التابعين في الجمع بين الصلاتين للمريض وبه يقول أحمد وإسحق وقال بعض أهل العلم يجمع بين الصلاتين في المطر وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحق ولم ير الشافعي للمريض أن يجمع بين الصلاتين

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف البصري ) الجوباري من شيوخ الترمذي ومسلم وأبي داود وابن ماجه صدوق ، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين .

                                                                                                          ( عن أبيه ) سليمان التيمي ( عن حنش ) بفتح الحاء المهملة والنون لقب حسين بن قيس الرحبي أبي علي الواسطي وهو متروك ، كذا في التقريب .

                                                                                                          قوله : ( من جمع بين الصلاتين من غير عذر ) كسفر ومرض ( فقد أتى بابا من أبواب الكبائر ) قال المناوي : تمسك به الحنفية على منع الجمع في السفر ، وقال الشافعي السفر عذر ، انتهى . قلت : قد جاء في الجمع بين الصلاتين في السفر أحاديث صحيحة صريحة في الصحيحين وغيرهما ، وحديث ابن عباس هذا ضعيف جدا . قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة حنش بن قيس : حديثه " من جمع بين الصلاتين " الحديث ، لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به ولا أصل له ، وقد صح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر ، انتهى ، وأما قول الحاكم بعد روايته في المستدرك هذا حديث صحيح ، فقد رده الذهبي كما صرح به المناوي ، وعلى تقدير صحته فالجواب هو ما قال الشافعي من أن السفر عذر .

                                                                                                          قوله : ( وهو ضعيف عند أهل الحديث ضعفه أحمد وغيره ) قال الذهبي في الميزان في ترجمته : قال أحمد متروك ، وقال أبو زرعة وابن معين ضعيف ، وقال البخاري : لا يكتب حديثه ، وقال النسائي : ليس بثقة ، وقال مرة متروك ، وقال السعدي : أحاديثه منكرة جدا ، وقال الدارقطني : متروك ، وعد الذهبي حديثه " من جمع بين الصلاتين " . . . إلخ من منكراته .

                                                                                                          قوله : ( والعمل على هذا عند أهل العلم أن لا يجمع بين الصلاتين إلا في السفر أو بعرفة ) [ ص: 478 ] قال الترمذي في آخر كتابه في كتاب العلل ما لفظه : جميع ما في هذا الكتاب من الحديث هو معمول به ، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين : حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة ، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر ، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ، انتهى . قال النووي في شرح مسلم : وهذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله ، فهو حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه ، وأما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به ، بل لهم أقوال ، ثم ذكر تلك الأقوال ، وقد مرت في كلام الحافظ ، وقال صاحب دراسات اللبيب : هذا القول منه -أي من الترمذي - غريب جدا ، وجه الغرابة أنا قدمنا أن عدم الأخذ بالحديث ممن ينسب إليه ذلك ، إنما يتحقق إذا لم يجب عن ذلك الحديث ولم يحمله على محمل ، وأما إذا فعل ذلك فقد أخذ به ، وهذا الحديث يعني حديث ابن عباس كثرت في تأويله أقوال العلماء ومذاهبهم فيه ، ومع هذه التأويلات والمذاهب فيه ، وإن كانت بعضها بعيدة كيف يطلق عليه أنه لم يعمل به أحد من العلماء ، وإن أراد الترمذي أنه لم يعمل بظاهره من غير تأويل أحد من العلماء فيبطل قوله : " كل حديث في كتابي هذا معمول به ما خلا حديثين " ، فإن كل حديث في كتابه ليس مما لم يؤول أصلا وعمل بظاهره ، على أن هذا الحديث عمل بظاهره جماعة من العلماء ، ثم ذكر قول النووي : وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر . انتهى كلامه . قلت : الأمر كما قاله صاحب الدراسات .

                                                                                                          قوله : ( ورخص بعض أهل العلم من التابعين في الجمع بين الصلاتين للمريض وبه يقول أحمد وإسحاق ) وقال عطاء يجمع المريض بين المغرب والعشاء ، كذا في صحيح البخاري معلقا ، ووصله عبد الرزاق ، قال الحافظ في الفتح : وصله عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عنه قال : واختلف العلماء في المريض هل يجوز له أن يجمع بين الصلاتين كالمسافر لما فيه من الرفق به أو لا؟ فجوزه أحمد وإسحاق واختاره بعض الشافعية ، وجوزه مالك بشرطه والمشهور عن الشافعي وأصحابه المنع ولم أر في المسألة نقلا عن أحد من الصحابة . انتهى كلام الحافظ . وقال العيني في عمدة القاري : قال عياض الجمع بين الصلوات المشتركة في الأوقات يكون تارة سنة وتارة رخصة ، [ ص: 479 ] فالسنة الجمع بعرفة والمزدلفة ، وأما الرخصة فالجمع في السفر والمرض والمطر فمن تمسك بحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه الصلاة والسلام وقد أمه فلم ير الجمع في ذلك ، ومن خصه أثبت جواز الجمع في السفر بالأحاديث الواردة فيه وقاس المرض عليه فنقول : إذا أبيح للمسافر الجمع بمشقة السفر فأحرى أن يباح للمريض ، وقد قرن الله تعالى المريض بالمسافر في الترخيص له في الفطر والتيمم ، وأما الجمع في المطر فالمشهور من مذهب مالك إثباته في المغرب والعشاء وعنه قولة شاذة أنه لا يجمع إلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومذهب المخالف جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المطر . انتهى ما في العمدة .

                                                                                                          ( وقال بعض أهل العلم : يجمع بين الصلاتين في المطر . وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق ) قال الحافظ ابن تيمية في المنتقى في باب جمع المقيم لمطر أو لغيره بعد ذكر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء ما لفظه : قلت وهذا يدل بفحواه على الجمع للمطر والخوف وللمرض ، وإنما خولف ظاهر منطوقه في الجمع لغير عذر للإجماع ولأخبار المواقيت فتبقى فحواه على مقتضاه ، وقد صح الجمع للمستحاضة ، والاستحاضة نوع مرض .

                                                                                                          ولمالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم ، وللأثرم في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال : من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء . انتهى كلام ابن تيمية . قلت : أثر أبي سلمة بن عبد الرحمن هذا سكت عنه ابن تيمية والشوكاني ولم أقف على سنده فالله أعلم بحاله كيف هو صحيح أو ضعيف ، وقد أثبت الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين جواز الجمع بين الصلاتين لأصحاب الأعذار وبسط فيه ، من شاء الاطلاع عليه فليرجع إليه ، فإن قيل كيف جوزوا الجمع بين الصلاتين لعذر المرض والمطر وقد قال الإمام محمد في موطئه : بلغنا عن عمر بن الخطاب أنه كتب في الآفاق ينهاهم أن يجمعوا بين الصلاتين ويخبرهم أن الجمع بين الصلاتين في وقت واحد كبيرة من الكبائر ، قال أخبرنا بذلك الثقات عن العلاء بن الحارث عن مكحول . انتهى ، فقول عمر هذا بإطلاقه يدل على أن الجمع بين الصلاتين مطلقا كبيرة من الكبائر ، سواء كان من عذر أو من غير عذر ، فالجواب من قبل المجوزين أن المراد بالجمع في قول عمر المذكور الجمع من غير عذر يدل عليه ما أخرجه الحاكم عن أبي العالية عن عمر قال : جمع الصلاتين من غير عذر من الكبائر . قال وأبو العالية لم [ ص: 480 ] يسمع من عمر ، ثم أسند عن أبي قتادة أن عمر كتب إلى عامل له : ثلاث من الكبائر ؛ الجمع بين الصلاتين من غير عذر والفرار من الزحف ، الحديث ، قال : وأبو قتادة أدرك عمر ، فإذا انضم هذا إلى الأول صار قويا ، قالوا فقول عمر هذا لا يضرنا ، فإنه يدل على المنع من الجمع من غير عذر ، والعذر قد يكون بالسفر وقد يكون بالمطر وغير ذلك ، ونحن نقول به وقالوا أيضا من عرض له عذر يجوز له الجمع إذا أراد ذلك ، وأما إذا لم يكن له ذلك ولم يرد الجمع ، بل ترك الصلاة عمدا إلى أن دخل وقت الأخرى فهو آثم بلا ريب .




                                                                                                          الخدمات العلمية