الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3625 [ 1958 ] وعن البراء بن عازب: أن خاله أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا يوم اللحم فيه مكروه، وإني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعد نسكا. فقال: يا رسول الله، إن عندي عناق لبن، هي خير من شاتي لحم. فقال: هي خير نسيكتيك، ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك.

                                                                                              رواه مسلم (1961) (5) والترمذي (1508) والنسائي (7 \ 222).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و(قوله: إن هذا يوم اللحم فيه مكروه ) قال القاضي : هكذا رويناه بالهاء والكاف من طريق الفارسي ، والسجزي ، وكذا ذكره الترمذي ، ورويناه من طريق العذري : (مقروم) بالقاف والميم.

                                                                                              قلت: وهذه الرواية هي الصواب الواضح. ومعناها: أن اللحم في هذا اليوم تتشوف النفوس إليه لشهوتها. يقال: قرمت إلى اللحم، وقرمته: إذا اشتهيته، أقرم قرما. وأما رواية "مكروه": ففيها بعد. وقد تكلف لها بعضهم ما لا يصح رواية ولا معنى، فقال: صوابه: اللحم - بفتح الحاء - قال: ومعناه: أن يترك أهله بلا لحم حتى يشتهوه. و(اللحم) -بالفتح -: شهوة اللحم. فانظر مع هذا التكلف القبيح كيف لا يظهر منه معنى صحيح. وقال آخر: معنى: ( اللحم فيه مكروه ) أي: [ ص: 359 ] لمخالفته السنة، كما قال في الحديث الآخر: ( شاتك شاة لحم ).

                                                                                              قلت: وهذا من قول من لم يتأمل مساق الحديث، فإن هذا التأويل ليس ملائما له، ولا موافقا لمعناه; إذ لا يستقيم أن يقول: إن هذا اليوم اللحم فيه مخالف للسنة، وإني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي. وهذا فاسد.

                                                                                              وأقرب ما يتكلف لهذه الرواية وأنسبه: أن يقال: إن معناه: اللحم فيه مكروه التأخير. فحذف التأخير، وهو يريده. ويشهد لهذا قوله بعده متصلا به: ( وإني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني ). وهذا مناسب لما قدرناه من المحذوف. والله تعالى أعلم.

                                                                                              و(قوله: هي خير نسيكتيك ) سمى ما ذبح قبل الصلاة نسيكة بحسب توهم الذابح وزعمه، وذلك: أنه إنما ذبحها في ذلك الوقت بنية النسك، وبعد ذلك بين له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنها ليست نسكا شرعا لما قال: (من ذبح قبل الصلاة، فإنما هو لحم عجله لأهله، ليس من النسك في شيء).

                                                                                              وقول عقبة : ( قسم فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحايا فأصابني جذع، فقلت: يا رسول الله! أصابني جذع، فقال: ضح به ). وفي الرواية الأخرى: (عتود) هذه الرواية تدل على أن الجذع المذكور في حديث عقبة هو من المعز، فإن العتود إنما هو بأصل وضعه اسم لما رعى وقوي من أولاد المعز، وأتى عليه حول. هذا هو المعروف في اللغة، وعلى هذا: فيكون هذا الحديث معارضا لحديث [ ص: 360 ] أبي بردة ، ولذلك قال علماؤنا: إن حديث عقبة منسوخ بحديث أبي بردة ، ودل على هذا: ما حكي من الإجماع على عدم إجزاء الجذع من المعز.

                                                                                              قلت: ويمكن في حديث عقبة تأويلان، ولا يصار فيه إلى النسخ:

                                                                                              أحدهما: أن الجذع المذكور فيه: هو من الضأن، وأطلق عليه العتود; لأنه في سنه وقوته، ولا يستنكر هذا، فمن المعلوم: أن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا جاوره، أو كان منه بسبب أو شبه.

                                                                                              وثانيهما: أن العتود وإن كان من المعز، فقد يقال على ما خرج من السنة الأولى، ودخل في السنة الثانية لتقارب ما بينهما. وقد دل على صحة هذا ما حكاه القاضي عن أهل اللغة: أن العتود: الجدي الذي بلغ السفاد. قال ابن الأعرابي : المعز، والإبل، والبقر: لا تضرب فحولها إلا بعد أن تثني، فإذا صح هذا ارتفع التعارض، وصح الجمع بين الحديثين، والجمع أولى من الترجيح، والنسخ لا يصح مع إمكان الجمع. وفي حديث عقبة دليل على تأكد أمر الأضحية، وأن الإمام ينبغي أن يفرق الضحايا على من لا يقدر عليها من بيت مال المسلمين.




                                                                                              الخدمات العلمية