الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا ومن باب الإشارة في الآيات : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون إلى آخره، قيل: الألف إشارة إلى ألفة طبع المؤمنين، واللام إلى لؤم طبع الكافرين، والميم إلى مغفرة رب العالمين جل شأنه، والروم إشارة إلى القلب، وفارس المشار إليهم بالضمير النائب عن الفاعل إشارة إلى النفس، والمؤمنون إشارة إلى الروح والسر والعقل، ففي الآية إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة، ويغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله تعالى ونصره سبحانه تارة أخرى، وذلك في بضع سنين أيام الطلب، ويومئذ يفرح المؤمنون الروح والسر والعقل، وعلى هذا المنهاج سلك النيسابوري: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فيه إشارة إلى حال المحجوبين ووقوفهم على ظواهر الأشياء، وما من شيء إلا له ظاهر، وهو ما تدركه الحواس الظاهرة منه، وباطن وهو ما يدركه العقل بإحدى طرق الإدراك من وجوه الحكمة فيه، ومنه ما هو وراء طور العقل، وهو ما يحصل بواسطة الفيض الإلهي وتهذيب النفس أتم تهذيب، وهو وإن لم يكن من مستنبطات العقل إلا أن العقل يقبله، وليس معنى أنه ما وراء طور العقل أن العقل يحيله ولا يقبله كما يتوهم، ومما ذكرنا يعلم أن الباطن لا يجب أن يتوصل إليه بالظاهر، بل قد يحصل لا بواسطته، وذلك أعلى قدرا من حصوله بها، فقول من يقول: إنه لا يمكن الوصول إلى الباطن إلا بالعبور على الظاهر لا يخلو عن بحث، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون أي يسرون بالسماع في روضة الشهود، وذلك غذاء أرواحهم ونعيمها، وأعلى أنواع السماع في هذه النشأة عند السادة الصوفية ما يكون من الحضرة الإلهية بالأرواح القدسية، والأسماع الملكوتية، وهذه الأسماع لم يفارقها سماع ألست بربكم [الأعراف: 172]، واشتهر عندهم السماع في سماع الأصوات الحسنة، وسماع الأشياء المحركة لما غلب عليهم من الأحوال من الخوف، والرجاء، والحب، والتعظيم، وذلك كسماع القرآن، والوعظ، والدف، والشبابة، والأوتار، والمزمار، والحداء، والنشيد، وفي ذلك الممدوح والمذموم. وفي قواعد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الكبرى تفصيل الكلام في ذلك على أتم وجه، وسنذكر إن شاء الله تعالى قريبا ما يتعلق بذلك، والله تعالى هو الموفق للصواب، فسبحان الله حين تمسون إلخ، فيه إشارة إلى أنه ينبغي استغراق الأوقات في تنزيه الله سبحانه والثناء عليه جل وعلا بما هو سبحانه وتعالى أهله، فإن ذلك روضة هذه النشأة، وفي الأثر: (أن حلق الذكر رياض الجنة)، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فيه إشارة إلى أن الفرع لا يلزم أن يكون كأصله:


                                                                                                                                                                                                                                      إنما الورد من الشوك ولا ينبت النرجس إلا من بصل



                                                                                                                                                                                                                                      ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها فيه إشارة إلى أن الاشتراك في الجنسية من أسباب الألفة، إن الطيور على أشباهها تقع، كل حزب بما لديهم فرحون فيه إشارة إلى أنه عز وجل لم يكره أحدا على ما هو عليه، إن حقا، وإن باطلا، وإنما وقع التعاشق بين النفوس بحسب استعدادها، وما هي عليه، فأعطى سبحانه جلت قدرته كل عاشق معشوقه الذي هام به قلب استعداده، وصار حبه ملء فؤاده، وهذا [ ص: 64 ] سر الفرح، وما ألطف ما قال قيس بن ذريح:


                                                                                                                                                                                                                                      تعلق روحي روحها قبل خلقنا     ومن قبل ما كنا نطافا وفي المهد
                                                                                                                                                                                                                                      فزاد كما زدنا فأصبح ناميا     وليس إذا متنا بمنفصم العقد
                                                                                                                                                                                                                                      ولكنه باق على كل حادث     وزائرنا في ظلمة القبر واللحد



                                                                                                                                                                                                                                      وإذا مس الناس الآية فيها إشارة إلى أن طبيعة الإنسان ممزوجة من هداية الروح وإطاعتها، ومن ضلال النفس وعصيانها، فالناس إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومستهم البلية وانكسرت نفوسهم وسكنت دواعيها وتخصلت أرواحهم عن أسر ظلمة شهواتها رجعت أرواحهم إلى الحضرة ووافقتها النفوس على خلاف طباعها، فدعوا ربهم منيبين إليه، فإذا جاد سبحانه عليهم بكشف ما نالهم، ونظر جل وعلا باللطف فيما أصابهم، عاد منهم من تمرد إلى عادته المذمومة وطبيعته الدنية المشئومة، ظهر الفساد في البر والبحر إلخ، فيه إشارة إلى أن الشرور ليست مرادة لذاتها، بل هي كبط الجرح وقطع الأصبع التي فيها آكلة، فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون فيه إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يوقنون بصدق أحوالهم، ولذا يستخفون بهم، وينظرون إليهم بنظر الحقارة، ويعيرونهم وينكرون عليهم، فيما يقولون ويفعلون، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الموقنين، وأن يحفظنا وأولادنا وإخواننا من الأمراض القلبية والقالبية بحرمة نبيه الأمين صلى الله تعالى وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية