الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المقصود في التي قبلها إثبات الحكمة لمنزل هذا الكتاب الذي هو بيان كل شيء الملزوم لتمام العلم وكمال الخبرة الذي ختمت به بعد أن أخبر أنه سبحانه مختص بعلم المفاتيح بعد أن أنذر بأمر الساعة، فثبت بذلك وما قبله أنه ما أثبت شيئا فقدر غيره من أهل الكتاب وغيرهم على نفيه، ولا نفى شيئا فقدر غيره على إثباته ولا إثبات شيء منه، كانت نتيجة ذلك أنه لا يكون شيء من الأشياء دقيقها وجليلها إلا يعلمه سبحانه وتعالى، وأجل ذلك إنزالا هذا الذكر الحكيم الذي فيه إثبات هذه العلوم مع شهادة العجز عن معارضته له بأنه من عند الله، فلذلك قال تنـزيل الكتاب أي الجامع لكل هدى على ما ترون من التدريج من السماء لا ريب فيه أي يفي كونه من السماء لأن نافي الريب ومميطه وهو الإعجاز معه لا ينفك عنه، فكل ما يقولونه مما يخالف ذلك تعنت أو جهل من غير ريب، حال كونه من رب العالمين أي الخالق لهم المدبر لمصالحهم، فلا يجوز في عقل ولا يخطر في بال ولا يقع في وهم ولا يتصور في خيال [أنه يترك خلقه وهو المدبر الحكيم [ ص: 224 ] من غير كتاب يكون سبب إبقائهم أو] أن يصل شيء من كتابه إلى هذا النبي الكريم بغير أمره، فلا يتخيل أن شيئا منه ليس بقول الله ثم لا يتخيل أنه كلامه تعالى ولكنه أخذه من بعض أهل الكتاب، لأن هذا لا يفعل مع ملك فكيف بملك الملوك، فكيف بمن هو عالم بالسر والجهر، محيط علمه بالخفي والجلي، فلو ادعى عليه أحد ما لم يأذن فيه لما أيده بالمعجزات.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أقره على ذلك المدد المتطاولات، ولا سيما إعجاز كل ما ينسبه إليه بالمعجزات، ويدعيه عليه، وهذا غاية ما في آل عمران كما كان أول لقمان غاية أول القرآن المطلق. وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما انطوت سورة الروم على ما قد أشير إليه من التنبيه بعجائب ما أودعه سبحانه وتعالى في عالم السماوات والأرض، وعلى ذكر الفطرة، ثم أتبعت بسورة لقمان تعريفا بأن مجموع تلك الشواهد من آيات الكتاب وشواهده ودلائله، وأنه قد هدى من شاء إلى سبيل الفطرة وإن لم يمتحنه بما امتحن به كثيرا ممن ذكر، فلم يغن عنه ودعي فلم يجب، وتكررت عليه الإنذارات فلم يصغ [لها،] لأن كل ذلك من الهدى والضلال واقع بمشيئته وسابق إرادته، وأتبع سبحانه [ ص: 225 ] ذلك بما ينبه المعتبر على صحته فقال: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى فأعلم سبحانه أن الخلاص والسعادة في الاستسلام له ولما يقع من أحكامه، وعزى نبيه صلى الله عليه وسلم وصبره بقوله: ومن كفر فلا يحزنك كفره ثم ذكر تعالى لجأ الكل قهرا ورجوعا يحاكم اضطرارهم لوضوح الأمر إليه تعالى فقال: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ثم وعظ تعالى الكل بقوله ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أي إن ذلك لا يشق عليه سبحانه وتعالى ولا يصعب، والقليل والكثير سواء، ثم نبه بما يبين ذلك من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وجريان الفلك بنعمته ذلك بأن الله هو الحق ثم أكد ما تقدم من رجوعهم في الشدائد إليه فقال: وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فإذا خلصهم سبحانه وتعالى ونجاهم عادوا إلى سيئ أحوالهم، هذا وقد عاينوا رفقه بهم وأخذه عند الشدائد بأيديهم وقد اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر، وذلك شاهد من حالهم بجريانهم على [ما] قدر لهم ووقوفهم عند حدود السوابق ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ثم عطف سبحانه على الجميع فدعاهم إلى تقواه، وحذرهم يوم المعاد وشدته، وحذرهم من الاغترار، وأعلمهم أنه المتفرد بعلم الساعة، [ ص: 226 ] وإنزال الغيث، وعلم ما في الأرحام، وما يقع من المكتسبات، وحيث يموت كل من المخلوقات، فلما كانت سورة لقمان - بما بين من مضمنها - محتوية من التنبيه والتحريك على ما ذكر، ومعلمة بانفراده سبحانه بخلق الكل وملكهم، اتبعها تعالى بما يحكم بتسجيل صحة الكتاب، وأنه من عنده وأن ما انطوى عليه من الدلائل والبراهين يرفع كل ريب، ويزيل كل شك، فقال الم تنـزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك أي أيقع منهم هذا بعد وضوحه وجلاء شواهده، ثم أتبع ذلك بقوله: [ ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع وهو تمام لقوله: ومن يسلم وجهه إلى الله ولقوله:] ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ولقوله: وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ولقوله: اتقوا ربكم ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون بما ذكرتم، ألا ترون أمر لقمان وهدايته بمجرد دليل فطرته، فما لكم بعد التذكير وتقريع الزواجر وترادف الدلائل وتعاقب الآيات تتوقفون عن السلوك إلى ربكم وقد أقررتم بأنه خالقكم، ولجأتم إليه عند احتياجكم؟ ثم أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم برجوع من عاند وإجابته حين لا ينفعه رجوع، ولا تغني عنه إجابة، فقال: ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم [ ص: 227 ] ثم أعلم سبحانه أن الواقع منهم إنما هو بإرادته وسابق من حكمة ليأخذ الموفق الموقن نفسه بالتسليم فقال: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها كما فعلنا بلقمان ومن أردنا توفيقه، ثم ذكر انقسامهم بحسب السوابق فقال: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ثم ذكر مصير الفريقين ومآل الحزبين، ثم أتبع [ذلك] بسوء حال من ذكر فأعرض فقال: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها وتعلق الكلام إلى آخر السورة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية