الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      قال يزيد بن الأصم : خرج معاوية حاجا معه ابن عباس ، فكان لمعاوية موكب ، ولابن عباس موكب ممن يطلب العلم .

                                                                                      الأعمش : حدثنا أبو وائل قال : خطبنا ابن عباس ، وهو أمير على الموسم ، فافتتح سورة النور ، فجعل يقرأ ، ويفسر ، فجعلت أقول : ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا ، لو سمعته فارس ، والروم ، والترك ، لأسلمت .

                                                                                      وروى عاصم بن بهدلة ، عن أبي وائل مثله .

                                                                                      روى جويبر ، عن الضحاك ، قال : ما رأيت بيتا أكثر خبزا ولحما من بيت ابن عباس .

                                                                                      سليم بن أخضر ، عن سليمان التيمي ، قال : أنبأني من أرسله الحكم بن أيوب إلى الحسن ، فسأله : من أول من جمع الناس في هذا المسجد يوم عرفة ؟ فقال : إن أول من جمع ابن عباس .

                                                                                      وعن مسروق قال : كنت إذا رأيت ابن عباس ، قلت : أجمل الناس . فإذا نطق ، قلت : أفصح الناس . فإذا تحدث ، قلت : أعلم الناس .

                                                                                      قال القاسم بن محمد : ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلا قط . [ ص: 352 ]

                                                                                      قال سفيان بن عيينة : لم يدرك مثل ابن عباس في زمانه ، ولا مثل الشعبي في زمانه ، ولا مثل الثوري في زمانه .

                                                                                      أبو عامر الخزاز : عن ابن أبي مليكة : صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة ، فكان يصلي ركعتين ، فإذا نزل ، قام شطر الليل ، ويرتل القرآن حرفا حرفا ، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب .

                                                                                      معتمر بن سليمان : عن شعيب بن درهم ، عن أبي رجاء ، قال : رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء .

                                                                                      عبد الوهاب الخفاف ، عن أبي أمية بن يعلى ، عن سعيد بن أبي سعيد ، قال : كنت عند ابن عباس ، فجاءه رجل ، فقال : يا ابن عباس ! كيف صومك ؟ قال : أصوم الاثنين والخميس . قال : ولم ؟ قال : لأن الأعمال ترفع فيهما ، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم .

                                                                                      إسحاق بن سليمان الرازي : سمعت أبا سنان ، عن حبيب بن أبي ثابت : أن أبا أيوب الأنصاري أتى معاوية ، فشكا دينا ، فلم ير منه ما يحب . فقدم البصرة ، فنزل على ابن عباس ، ففرغ له بيته ، وقال : لأصنعن بك كما صنعت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : كم دينك ؟ قال : عشرون ألفا . فأعطاه أربعين ألفا ، وعشرين مملوكا ، وكل ما في البيت . [ ص: 353 ]

                                                                                      وعن الشعبي وغيره : أن عليا - رضي الله عنه - أقام بعد وقعة الجمل بالبصرة خمسين ليلة ، ثم سار إلى الكوفة ، واستخلف ابن عباس على البصرة ، ووجه الأشتر على مقدمته إلى الكوفة ، فلحقه رجل فقال : من استخلف أمير المؤمنين على البصرة ؟ قال : ابن عمه . قال : ففيم قتلنا الشيخ أمس بالمدينة ؟ قال : فلم يزل ابن عباس على البصرة حتى سار إلى صفين ، فاستخلف أبا الأسود بالبصرة على الصلاة ، وزيادا على بيت المال .

                                                                                      قلت : وقد كان علي لما بويع ، قال لابن عباس : اذهب على إمرة الشام . فقال : كلا ، أقل ما يصنع بي معاوية إن لم يقتلني الحبس ، ولكن استعمله ، وبين يديك عزله بعد ، فلم يقبل منه . وكذلك أشار على علي أن لا يولي أبا موسى يوم الحكمين وقال : ولني ، أو فول الأحنف ، فأراد علي ذلك ، فغلبوه على رأيه .

                                                                                      قال أبو عبيدة في تسمية أمراء علي يوم صفين : فكان على الميسرة ابن عباس ، ثم رد بعد إلى ولاية البصرة .

                                                                                      ومما قال حسان - رضي الله عنه - فيما بلغنا :

                                                                                      إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل أقواله فضلا     إذا قال لم يترك مقالا لقائل
                                                                                      بمنتظمات لا ترى بينها فصلا     كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع
                                                                                      لذي أرب في القول جدا ولا هزلا     سموت إلى العليا بغير مشقة
                                                                                      فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا     خلقت حليفا للمروءة والندى
                                                                                      بليجا ، ولم تخلق كهاما ولا خبلا

                                                                                      [ ص: 354 ]

                                                                                      روى العتبي عن أبيه ، قال : لما سار الحسين إلى الكوفة ، اجتمع ابن عباس ، وابن الزبير ، بمكة ، فضرب ابن عباس على جيب ابن الزبير ، وتمثل :

                                                                                      يا لك من قنبرة بمعمر     خلا لك الجو فبيضي واصفري
                                                                                      ونقري ما شئت أن تنقري



                                                                                      خلا لك والله يا ابن الزبير الحجاز ، وذهب الحسين . فقال ابن الزبير : والله ما ترون إلا أنكم أحق بهذا الأمر من سائر الناس . فقال : إنما يرى من كان في شك ، ونحن فعلى يقين . لكن أخبرني عن نفسك : لم زعمت أنك أحق بهذا الأمر من سائر العرب ؟ فقال ابن الزبير : لشرفي عليهم . قال : أيما أشرف ، أنت أم من شرفت به ؟ قال : الذي شرفت به زادني شرفا . قال : وعلت أصواتهما حتى اعترض بينهما رجال من قريش ، فسكتوهما .

                                                                                      وعن عكرمة ، قال : كان ابن عباس في العلم بحرا ينشق له الأمر من الأمور ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم ألهمه الحكمة وعلمه التأويل فلما عمي ، أتاه الناس من أهل الطائف ومعهم علم من علمه - أو قال كتب من كتبه - فجعلوا يستقرئونه ، وجعل يقدم ويؤخر ، فلما رأى ذلك ، قال : إني قد [ ص: 355 ] تلهت من مصيبتي هذه ، فمن كان عنده علم من علمي ، فليقرأ علي ، فإن إقراري له كقراءتي عليه . قال : فقرءوا عليه .

                                                                                      تلهت : تحيرت ، والأصل ولهت كما قيل في وجاه تجاه .

                                                                                      أبو عوانة : عن هلال بن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه لم يكن يدخل الحمام إلا وحده ، وعليه ثوب صفيق ، يقول : إني أستحيي الله أن يراني في الحمام متجردا

                                                                                      أبو عوانة : عن أبي الجويرية ، قال : رأيت إزار ابن عباس إلى نصف ساقه أو فوق ذلك ، وعليه قطيفة رومية وهو يصلي .

                                                                                      رشدين بن كريب : عن أبيه ، قال : رأيت ابن عباس يعتم بعمامة سوداء ، فيرخي شبرا بين كتفيه ومن بين يديه .

                                                                                      ابن جريج ، عن عثمان بن أبي سليمان ، أن ابن عباس كان يتخذ الرداء بألف .

                                                                                      أبو نعيم : حدثنا سلمة بن شابور ؛ قال رجل لعطية : ما أضيق كمك . قال : كذا كان كم ابن عباس ، وابن عمر . [ ص: 356 ]

                                                                                      مالك بن دينار ، عن عكرمة : كان ابن عباس يلبس الخز ، ويكره المصمت .

                                                                                      عن عطية العوفي ، قال : لما وقعت الفتنة بين ابن الزبير وعبد الملك ، ارتحل ابن عباس ومحمد بن الحنفية بأهلهما حتى نزلوا مكة ؛ فبعث ابن الزبير إليهما : أن بايعا . فأبيا ، وقالا : أنت وشأنك لا نعرض لك ولا لغيرك ، فأبى ، وألح عليهما ، وقال : والله لتبايعن ، أو لأحرقنكم بالنار . فبعثا أبا الطفيل عامر بن واثلة إلى شيعتهم بالكوفة ، فانتدب أربعة آلاف ، فحملوا السلاح ، حتى دخلوا مكة ، ثم كبروا تكبيرة سمعها أهل مكة ، وانطلق ابن الزبير من المسجد هاربا حتى دخل دار الندوة ، وقيل : بل تعلق بأستار الكعبة ، وقال : أنا عائذ ببيت الله .

                                                                                      قال : ثم ملنا إلى ابن عباس وابن الحنفية قد عمل حول دورهم الحطب ليحرقها ، فخرجنا بهم ، حتى نزلنا بهم الطائف .

                                                                                      ولأبي الطفيل الكناني حين منع ابن الزبير عبد الله بن عباس من الاجتماع بالناس ، كان يخافه ، وإنما أخر الناس عن بيعة ابن عباس - أن لو شاء الخلافة - ذهاب بصره :

                                                                                      لا در در الليالي كيف تضحكنا     منها خطوب أعاجيب وتبكينا
                                                                                      ومثل ما تحدث الأيام من غير     في ابن الزبير عن الدنيا تسلينا
                                                                                      كنا نجيء ابن عباس فيقبسنا     فقها ويكسبنا أجرا ويهدينا
                                                                                      ولا يزال عبيد الله مترعة     جفانه مطعما ضيفا ومسكينا
                                                                                      فالبر والدين والدنيا بدارهما     ننال منها الذي نبغي إذا شينا
                                                                                      [ ص: 357 ] إن الرسول هو النور الذي كشفت     به عمايات ماضينا وباقينا
                                                                                      ورهطه عصمة في ديننا ولهم     فضل علينا وحق واجب فينا
                                                                                      ففيم تمنعهم منا وتمنعنا     منهم وتؤذيهم فينا وتؤذينا
                                                                                      لن يؤتي الله إنسانا ببغضهم     في الدين عزا ولا في الأرض تمكينا



                                                                                      قال ابن عبد البر في ترجمة ابن عباس : هو القائل ما روي عنه من وجوه :

                                                                                      إن يأخذ الله من عيني نورهما     ففي لساني وقلبي منهما نور
                                                                                      قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل     وفي فمي صارم كالسيف مأثور



                                                                                      قال سالم بن أبي حفصة : عن أبي كلثوم ، أن ابن الحنفية لما دفن ابن عباس ، قال : اليوم مات رباني هذه الأمة .

                                                                                      ورواه بعضهم ، فقال : عن " منذر الثوري " بدل " أبي كلثوم " .

                                                                                      قال حسين بن واقد المروزي : حدثنا أبو الزبير قال : لما مات ابن عباس جاء طائر أبيض ، فدخل في أكفانه .

                                                                                      رواها الأجلح ، عن أبي الزبير ، فزاد : فكانوا يرون أنه علمه .

                                                                                      وروى عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير نحوه ، وزاد : فما رئي بعد ، يعني الطائر . [ ص: 358 ]

                                                                                      حماد بن سلمة : عن يعلى بن عطاء ، عن بجير بن أبي عبيد ، قال : مات ابن عباس بالطائف ، فلما خرجوا بنعشه ، جاء طير عظيم أبيض من قبل وج حتى خالط أكفانه ، ثم لم يروه ، فكانوا يرون أنه علمه .

                                                                                      قال ابن حزم في كتاب " الإحكام " جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون أحد أئمة الإسلام فتاوى ابن عباس في عشرين كتابا .

                                                                                      أخبرنا أحمد بن سلامة في كتابه ، عن ابن كليب ، أخبرنا ابن بيان ، أخبرنا ابن مخلد ، أخبرنا الصفار ، حدثنا ابن عرفة ، حدثنا مروان بن شجاع : عن سالم الأفطس ، عن سعيد ؛ قال : مات ابن عباس بالطائف ، فجاء طائر لم ير على خلقته ، فدخل نعشه ، ثم لم ير خارجا منه ، فلما دفن ، تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية الآية . . .

                                                                                      رواه بسام الصيرفي ، عن عبد الله بن يامين وسمى الطائر غرنوقا .

                                                                                      وروى فرات بن السائب ، عن ميمون بن مهران : شهدت جنازة ابن عباس . . . بنحو من حديث سالم الأفطس .

                                                                                      فهذه قضية متواترة . [ ص: 359 ]

                                                                                      قال علي بن المديني : توفي ابن عباس سنة ثمان أو سبع وستين وقال الواقدي ، والهيثم ، وأبو نعيم : سنة ثمان وقيل : عاش إحدى وسبعين سنة .

                                                                                      ومسنده ألف وستمائة وستون حديثا . وله من ذلك في " الصحيحين " خمسة وسبعون . وتفرد البخاري له بمائة وعشرين حديثا ، وتفرد مسلم بتسعة أحاديث .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية