الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ويكره بيع السلاح من أهل الفتنة وفي عساكرهم ) ; لأنه إعانة على المعصية ( وليس ببيعه بالكوفة من أهل الكوفة ومن لم يعرفه من أهل الفتنة بأس ) ; لأن الغلبة في الأمصار لأهل الصلاح ، وإنما يكره بيع نفس السلاح لا بيع ما لا يقاتل به إلا بصنعة [ ص: 108 ] ألا ترى أنه يكره بيع المعازف ولا يكره بيع الخشب ، وعلى هذا الخمر مع العنب .

التالي السابق


( قوله : ويكره بيع السلاح من أهل الفتنة وفي عسكرهم ; لأنه إعانة على المعصية ، وليس ببيعه بالكوفة من أهل الكوفة ومن لم يعرف من أهل الفتنة بأس ; لأن الغلبة في الأمصار لأهل الصلاح ، وإنما يكره بيع نفس السلاح ) ; لأنه يقاتل بعينه ( لا ما لا يقاتل به إلا بصنعة ) [ ص: 108 ] تحدث فيه ، ونظيره كراهة بيع المعازف ; لأن المعصية تقام بها عينها ( ولا يكره بيع الخشب ) المتخذة هي منه ( وعلى هذا بيع الخمر ) لا يصح ويصح بيع العنب . والفرق في ذلك كله ما ذكرنا . وقيل الفرق الصحيح أن الضرر هنا يرجع إلى العامة وهناك يرجع إلى الخاصة ، ذكره في الفوائد الظهيرية .



[ فروع ] إذا طلب أهل البغي الموادعة أجيبوا إليها إذا كان خيرا للمسلمين ; لأن المسلمين قد يحتاجون إلى الموادعة لحفظ قوتهم والاستزادة من التقوى عليهم ولا يؤخذ منهم عليها شيء ; لأنهم مسلمون ، ومثله في المرتدين إلا أنهم إذا أخذوا ملكوا ثم يجبرون على الإسلام ، وإذا تاب أهل البغي تقدم أنهم لا يضمنون ما أتلفوا . وفي المبسوط : روي عن محمد قال : أفتيهم بأن يضمنوا ما أتلفوا من النفوس والأموال ولا ألزمهم بذلك في الحكم . قال شمس الأئمة : وهذا صحيح ; لأنهم كانوا معتقدين الإسلام وقد ظهر لهم خطؤهم ، إلا أن ولاية الإلزام كانت منقطعة للمنعة فيفتوا به . ولو استعان أهل البغي بأهل الذمة فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضا للعهد ، كما أن هذا الفعل من أهل البغي ليس نقضا للإيمان ، فالذين انضموا إليهم من أهل الذمة لم يخرجوا من أن يكونوا ملتزمين حكم الإسلام في المعاملات ، وأن يكونوا من أهل الدار فحكمهم حكم البغاة .



وإذا وقعت الموادعة فأعطى كل فريق رهنا على أن أيهما غدر يقتل الآخرون الرهن فغدر أهل البغي وقتلوا الرهن لا يحل لأهل العدل قتل الرهن ، بل يحبسونهم حتى يهلك أهل البغي أو يتوبوا ; لأنهم صاروا آمنين بالموادعة أو بإعطائنا الأمان لهم حين أخذناهم رهنا ، والغدر من غيرهم لا يؤاخذون به لكنهم يحبسون مخافة أن يرجعوا إلى فئتهم ، وكذا إذا كان هذا الصلح بين المسلمين والكفار حبس رهنهم حتى يسلموا ، فإن أبوا جعلوا ذمة ووضعت عليهم الجزية ; لأنهم حصلوا في أيدينا آمنين .

وحكي أن المنصور كان ابتلي به مع أهل الموصل ، ثم إنهم غدروا فقتلوا رهنه ، فجمع العلماء يستشيرهم فقالوا : يقتلون كما شرطوا على أنفسهم وفيهم أبو حنيفة ساكت ، فقال له : ما تقول ؟ قال ليس لك ذلك ، فإنك شرطت لهم ما لا يحل وشرطوا لك ما لا يحل ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل { ولا تزر وازرة وزر أخرى } فأغلظ عليه القول وأمر بإخراجه من عنده وقال : ما دعوتك لشيء إلا أتيتني بما أكره ، ثم جمعهم من الغد وقال : قد تبين لي أن الصواب ما قلت فماذا نصنع بهم . قال : سل العلماء ، فسألهم فقالوا لا علم لنا . قال أبو حنيفة : توضع عليهم الجزية ، قال : لم وهم لا يرضون بذلك . قال : لأنهم رضوا بالمقام في دارنا على التأبيد ، والكافر إذا رضي بذلك توضع عليه الجزية ، فاستحسن قوله واعتذر إليه .



وإذا أمن رجل من أهل العدل رجلا من أهل البغي جاز أمانه ; لأنه ليس أعلى شقاقا من الكافر ، وهناك يجوز فكذا هنا ; ولأنه قد يحتاج إلى مناظرته ليتوب ، ولا يتأتى ذلك ما لم يأمن كل من الآخر ، ومنه أن يقول : لا بأس عليك ولا يجوز أمان الذمي إذا كان يقاتل مع أهل البغي .



ولو ظهر أهل البغي على بلد فولوا فيه قاضيا من أهله ليس من أهل البغي صح ، وعليه أن يقيم الحدود والحكم بين الناس بالعدل ، فإن كتب هذا القاضي كتابا إلى قاضي أهل العدل بحق لرجل من أهل مصره بشهادة من شهد [ ص: 109 ] عنده ، إن كان القاضي يعرفهم وليسوا من أهل البغي أجازه ، وإن كانوا من أهل البغي أو لا يعرفهم لا يعمل به ; لأن الغالب فيمن يسكن عندهم أنه منهم ، ولا يقبل قاضي أهل العدل كتاب قاضي أهل البغي ; لأنهم فسقة ، ويكره أخذ رءوسهم فيطاف بها في الآفاق ; لأنه مثلة . وجوزه بعض المتأخرين إذا كان فيه طمأنينة قلوب أهل العدل أو كسر شوكتهم .



ويكره للعادل قتل أبيه أو أخيه من أهل البغي . بخلاف أخيه الكافر فإنه لا يكره ; لأنه اجتمع في الباغي حرمتان : حرمة الإسلام ، وحرمة القرابة ، وفي الكافر حرمة القرابة فقط .



وإذا كان رجل من أهل العدل في صف أهل البغي فقتله رجل من أهل العدل لم يكن عليه فيه دية كما لو كان في صف أهل الحرب ; لأنه أهدر دمه حين وقف في صفهم . ولو دخل بابا بأمان فقتله عادل عليه الدية كما لو قتل المسلم مستأمنا في دارنا ; وهذا لبقاء شبهة الإباحة في دمه .



وإذا حمل العادل على الباغي فقال تبت وألقى السلاح كف عنه ، وكذا لو قال كف عني حتى أنظر لعلي أتوب وألقى السلاح . وما لم يلق السلاح في صورة من الصور كان له قتله ، ومتى ألقاه كف عنه ، بخلاف الحربي لا يلزمه الكف عنه بإلقائه السلاح .



ولو غلب أهل البغي على بلد فقاتلهم آخرون من أهل البغي فأرادوا أن يسبوا ذراري أهل المدينة وجب على أهل البلد أن يقاتلوا دون ذراريهم ; لأنهم لا يسبون فوجب قتالهم .



وإذا وادع أهل البغي قوما من أهل الحرب لا يحل لأهل العدل غزوهم ; لأنهم مسلمون ، وأمان المسلم إذا كان في منعة نافذ على جميع المسلمين ، فإن غدر بهم البغاة فسبوا لا يحل لأحد من أهل العدل أن يشتري منهم .



ولو ظهر أهل البغي على أهل العدل فألجئوهم إلى دار الشرك لم يحل لهم أن يقاتلوا البغاة مع أهل الشرك ; لأن حكم أهل الشرك ظاهر عليهم ، ولا يحل لهم أن يستعينوا بأهل الشرك على أهل البغي إذا كان حكم أهل الشرك هو الظاهر ، ولا بأس بأن يستعين أهل العدل بالبغاة والذميين على الخوارج إذا كان حكم أهل العدل هو الظاهر ; لأنهم يقاتلون لإعزاز الدين ، والاستعانة عليهم بقوم منهم أو من أهل الذمة كالاستعانة عليهم بالكلاب .



وإذا ولى البغاة قاضيا في مكان غلبوا عليه فقضى ما شاء ثم ظهر أهل العدل فرفعت أقضيته إلى قاضي أهل العدل نفذ منها ما هو عدل ، وكذا ما قضاه برأي بعض المجتهدين ; لأن قضاء القاضي في المجتهدات نافذ وإن كان مخالفا لرأي قاضي العدل .



ولو استعان البغاة بأهل الحرب فظهر عليهم سبينا أهل الحرب ولا تكون استعانة البغاة بهم أمانا منهم لهم حتى يلزمنا تأمينهم على ما قدمنا ; لأن المستأمن من يدخل دار الإسلام تاركا للحرب وهؤلاء ما دخلوا إلا ليقاتلوا المسلمين .




الخدمات العلمية