الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال [ ص: 95 ] تعالى : ( وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا ) وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن ترك قوله : ( إن شاء الله ) ليس بحسن وذكره أحسن من تركه ، وقوله : ( لأقرب من هذا رشدا ) المراد منه ذكر هذه الجملة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : إذا وعدهم بشيء ، وقال معه : إن شاء الله ، فيقول : عسى أن يهديني ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن قوله : ( لأقرب من هذا رشدا ) إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ، ومعناه : لعل الله يؤتيني من البينات والدلائل على صحة أني نبي من عند الله صادق القول في ادعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف .

                                                                                                                                                                                                                                            وقد فعل الله ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك ، وأما قوله تعالى : ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ) فاعلم أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف وفي قوله : ( ولبثوا في كهفهم ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن هذا حكاية كلام القوم ، والدليل عليه أنه تعالى قال : ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ) وكذا إلى أن قال : ( ولبثوا في كهفهم ) أي أن أولئك الأقوام قالوا ذلك ، ويؤكده أنه تعالى قال بعده : ( قل الله أعلم بما لبثوا ) وهذا يشبه الرد على الكلام المذكور قبله ويؤكده أيضا ما روي في مصحف عبد الله : وقالوا ولبثوا في كهفهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن قوله : ( ولبثوا في كهفهم ) هو كلام الله تعالى ، فإنه أخبر عن كمية تلك المدة ، وأما قوله : ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ) فهو كلام قد تقدم ، وقد تخلل بينه وبين هذه الآية ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر ، وهو قوله : ( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ) وقوله : ( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض ) لا يوجب أن ما قبله حكاية ؛ وذلك لأنه تعالى أراد : ( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض ) فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي ثلاثمائة سنين بغير تنوين والباقون بالتنوين وذلك ؛ لأن قوله : ( سنين ) عطف بيان لقوله : ( ثلاث مائة ) لأنه لما قال : ( ولبثوا في كهفهم ) لم يعرف أنها أيام أم شهور أم سنون ، فلما قال : سنين صار هذا بيانا لقوله : ( ثلاث مائة ) فكان هذا عطف بيان له ، وقيل : هو على التقديم والتأخير أي لبثوا سنين ثلثمائة ، وأما وجه قراءة حمزة ، فهو أن الواجب في الإضافة : ثلاث مائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز ، كقوله : ( بالأخسرين أعمالا ) ( الكهف : 103 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله : ( وازدادوا تسعا ) المعنى وازدادوا تسع سنين فإن قالوا : لم لم يقل ثلاث مائة وتسع سنين ؟ وما الفائدة في قوله : ( وازدادوا تسعا ) ؟ قلنا : قال بعضهم : كانت المدة ثلاث مائة سنة من السنين الشمسية وثلثمائة وتسع سنين من القمرية ، وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول ، ويمكن أن يقال : لعلهم لما استكملوا ثلاث مائة سنة قرب أمرهم من الأنبياء ، ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ، ثم قال : ( قل الله أعلم بما لبثوا ) معناه : أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدة من الناس الذين اختلفوا فيها ، وإنما كان أولى بأن يكون عالما به ؛ لأنه موجد للسماوات والأرض ومدبر للعالم ، وإذا كان كذلك كان عالما بغيب [ ص: 96 ] السماوات والأرض فيكون عالما بهذه الواقعة لا محالة ، ثم قال تعالى : ( أبصر به وأسمع ) وهذه كلمة تذكر في التعجب ، والمعنى ما أبصره وما أسمعه ، وقد بالغنا في تفسير كلمة التعجب في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : ( فما أصبرهم على النار ) ( البقرة : 175 ) ثم قال تعالى : ( ما لهم من دونه من ولي ) وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما لأصحاب الكهف من دون الله من ولي ، فإنه هو الذي يتولى حفظهم في ذلك النوم الطويل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : ليس لهؤلاء المختلفين في مدة لبث أهل الكهف ولي من دون الله يتولى أمرهم ، ويقيم لهم تدبير أنفسهم ، فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه ، فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن بعض القوم لما ذكروا في هذا الباب أقوالا على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب ، فبين الله أنه ليس لهم من دونه ولي يمنع الله من إنزال العقاب عليهم ، ثم قال : ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) والمعنى : أنه تعالى لما حكم أن لبثهم هو هذا المقدار ، فليس لأحد أن يقول قولا بخلافه ، والأصل أن الاثنين إذا كانا لشريكين ، فإن الاعتراض من كل واحد منهما على صاحبه يكثر ، ويصير ذلك مانعا لكل واحد منهما من إمضاء الأمر على وفق ما يريده ، وحاصله يرجع إلى قوله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ( الأنبياء : 22 ) فالله تعالى نفى ذلك عن نفسه بقوله تعالى : ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) وقرأ ابن عامر : ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي والخطاب عطفا على قوله : ( ولا تقولن لشيء ) أو على قوله : ( واذكر ربك إذا نسيت ) والمعنى ولا تسأل أحدا عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف ، واقتصر على حكمه وبيانه ولا تشرك أحدا في طلب معرفة تلك الواقعة ، وقرأ الباقون بالياء والرفع على الخبر والمعنى : أنه تعالى لا يفعل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية