الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم ذكر تعالى جواب المؤمن ، فقال جل جلاله : ( قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ) وفيه بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : أن الإنسان الأول قال : ( وما أظن الساعة قائمة ) وهذا الثاني كفره حيث قال : ( أكفرت بالذي خلقك من تراب ) وهذا يدل على أن الشاك في حصول البعث كافر .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : هذا الاستدلال يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : يرجع إلى الطريقة المذكورة في القرآن ، وهو أنه تعالى لما قدر على الابتداء وجب أن يقدر على الإعادة ، فقوله : ( خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ) إشارة إلى خلق الإنسان في الابتداء .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أنه لما خلقك هكذا فلم يخلقك عبثا ، وإنما خلقك للعبودية وإذا خلقك لهذا المعنى وجب أن يحصل للمطيع ثواب وللمذنب عقاب وتقريره ما ذكرناه في سورة يس ، ويدل على هذا الوجه قوله : ( ثم سواك رجلا ) أي هيأك هيئة تعقل وتصلح للتكليف ، فهل يجوز في العقل مع هذه الحالة إهماله أمرك ، ثم قال المؤمن : ( لكنا هو الله ربي ) وفيه بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : قال أهل اللغة (لكنا) أصله لكن أنا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فاجتمعت النونان فأدغمت نون لكن في النون التي بعدها ومثله :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 108 ]

                                                                                                                                                                                                                                            وتقلينني لكن إياك لا أقلي



                                                                                                                                                                                                                                            أي لكن أنا لا أقليك ، وهو في قوله : ( هو الله ربي ) ضمير الشأن وقوله : ( الله ربي ) جملة من المبتدأ والخبر واقعة في معرض الخبر لقوله : (هو) فإن قيل : قوله : ( لكنا ) استدراك لماذا ؟ قلنا لقوله : ( أكفرت ) كأنه قال لأخيه : أكفرت بالله لكني مؤمن موحد كما تقول : زيد غائب لكن عمرو حاضر .

                                                                                                                                                                                                                                            والبحث الثاني : قرأ ابن عامر ويعقوب الحضرمي ونافع في رواية : ( لكنا هو الله ربي ) في الوصل بالألف ، وفي قراءة الباقين : ( لكن هو الله ربي ) بغير ألف ، والمعنى واحد ، ثم قال المؤمن : ( ولا أشرك بربي أحدا ) ذكر القفال فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : إني لا أرى الفقر والغنى إلا منه ، فأحمده إذا أعطى ، وأصبر إذا ابتلى ، ولا أتكبر عندما ينعم علي ولا أرى كثرة المال والأعوان من نفسي ؛ وذلك لأن الكافر لما اعتز بكثرة المال والجاه ، فكأنه قد أثبت لله شريكا في إعطاء العز والغنى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : لعل ذلك الكافر مع كونه منكرا للبعث كان عابد صنم ، فبين هذا المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن هذا الكافر لما عجز الله عن البعث والحشر ، فقد جعله مساويا للخلق في هذا العجز ، وإذا أثبت المساواة ، فقد أثبت الشريك ، ثم قال المؤمن للكافر : ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) فأمره أن يقول هذين الكلامين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قوله : ( ما شاء الله ) وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن تكون ( ما ) شرطية ويكون الجزاء محذوفا ، والتقدير : أي شيء شاء الله كان .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف وتقديره الأمر ما شاء الله ، واحتج أصحابنا بهذا على أن كل ما أراده الله وقع ، وكل ما لم يرده لم يقع ، وهذا يدل على أنه ما أراد الله الإيمان من الكافر ، وهو صريح في إبطال قول المعتزلة .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب الكعبي عنه بأن تأويل قولهم : ما شاء مما تولى فعله لا مما هو فعل العباد كما قالوا : لا مرد لأمر الله لم يرد ما أمر به العباد ، ثم قال : لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريده كما يحصل فيه ما نهى عنه ، واعلم أن الذي ذكر الكعبي ليس جوابا عن الاستدلال بل هو التزام المخالفة لظاهر النص وقياس الإرادة على الأمر باطل ؛ لأن هذا النص دال على أنه لا يوجد إلا ما أراده الله ، وليس في النصوص ما يدل على أنه لا يدخل في الوجود إلا ما أمر به ، فظهر الفرق ، وأجاب القفال عنه بأن قال : هلا إذا دخلت بستانك ، قلت : ما شاء الله كقول الإنسان لهذه الأشياء الموجودة في هذا البستان ما شاء الله ، ومثله قوله : ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ) وهم ثلاثة ، وقوله : ( وقولوا حطة ) ( الأعراف : 161 ) أي قولوا هذه حطة ، وإذا كان كذلك كان المراد من هذا الشيء الموجود في البستان شيئا شاء الله تكوينه ، وعلى هذا التقدير لم يلزم أن يقال : كل ما شاء الله وقع ؛ لأن هذا الحكم غير عام في الكل بل مختص بالأشياء المشاهدة في البستان ، وهذا التأويل الذي ذكره القفال أحسن بكثير مما ذكره الجبائي والكعبي ، وأقول : إنه على جوابه لا يدفع الإشكال على المعتزلة ؛ لأن عمارة ذلك البستان ربما حصلت بالغصوب والظلم الشديد ، فلا يصح أيضا على قول المعتزلة أن يقال : هذا واقع بمشيئة الله ، اللهم إلا أن نقول : المراد أن هذه الثمار حصلت بمشيئة الله تعالى إلا أن هذا تخصيص لظاهر النص من غير دليل ، والكلام الثاني الذي أمر المؤمن الكافر بأن يقوله هو قوله : ( لا قوة إلا بالله ) أي لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره .

                                                                                                                                                                                                                                            والمقصود أنه قال المؤمن للكافر : هلا قلت عند دخول جنتك : الأمر ما شاء الله ، والكائن ما قدره الله [ ص: 109 ] اعترافا بأنها وكل خير فيها بمشيئة الله وفضله ، فإن أمرها بيده إن شاء تركها وإن شاء خربها ، وهلا قلت : لا قوة إلا بالله إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها ، فهو بمعونة الله وتأييده لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله ، ثم إن المؤمن لما علم الكافر الإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفر ، فقال : ( إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا ) من قرأ أقل بالنصب فقد جعل أنا فصلا وأقل مفعولا ثانيا ، ومن قرأ بالرفع جعل قوله : ( أنا ) مبتدأ ، وقوله : (أقل) خبرا ، والجملة مفعولا ثانيا لترني ، واعلم أن ذكر الولد ههنا يدل على أن المراد بالنفر المذكور في قوله : ( وأعز نفرا ) الأعوان والأولاد ، كأنه يقول له : إن كنت تراني أقل مالا وولدا وأنصارا في الدنيا الفانية : ( فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ) إما في الدنيا ، وإما في الآخرة ، ويرسل على جنتك : ( حسبانا من السماء ) أي عذابا وتخريبا ، والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب ؛ أي مقدارا قدره الله وحسبه ، وهو الحكم بتخريبها . قال الزجاج : عذاب حسبان ، وذلك الحسبان حسبان ما كسبت يداك ، وقيل : حسبانا أي مرامي ، الواحد منها حسبانة ، وهي الصواعق : ( فتصبح صعيدا زلقا ) أي فتصبح جنتك أرضا ملساء لا نبات فيها ، والصعيد وجه الأرض ، زلقا أي تصير بحيث تزلق الرجل عليها زلقا ، ثم قال : ( أو يصبح ماؤها غورا ) أي يغوص ويسفل في الأرض : ( فلن تستطيع له طلبا ) أي فيصير بحيث لا تقدر على رده إلى موضعه . قال أهل اللغة في قوله : ( ماؤها غورا ) أي غائرا وهو نعت على لفظ المصدر ، كما يقال : فلان زور وصوم ، للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، ويقال : نساء نوح أي نوائح ، ثم أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدره هذا المؤمن ، فقال : ( وأحيط بثمره ) وهو عبارة عن إهلاكه بالكلية ، وأصله من إحاطة العدو ؛ لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ثم استعمل في كل إهلاك ، ومنه قوله : ( إلا أن يحاط بكم ) ( يوسف : 66 ) ومثله قولهم : أتى عليه إذا أهلكه ، من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعليا عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية