الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا تجب حتى تفضل الفطرة عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته ; لأن النفقة أهم فوجبت البداية بها ; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ابدأ بنفسك ثم بمن تعول } فإن وجد ما يؤدى عن بعضهم ، ففيه أربعة أوجه .

                                      ( أحدها ) : يبدأ بمن يبدأ بنفقته ، فإن فضل صاع أخرجه عن نفسه ، [ ص: 78 ] فإن فضل صاع آخر أخرجه عن زوجته ، فإن فضل صاع آخر أخرجه عن ولده الصغير ، فإن فضل صاع آخر أخرجه عن أبيه . فإن فضل صاع آخر أخرجه عن أمه ، فإن فضل صاع آخر أخرجه عن ولده الكبير ; لأنا قلنا : الفطرة تابعة للنفقة وترتيبهم في النفقة كما ذكرنا ، فكذلك في الفطرة .

                                      ( والثاني ) : تقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسه ; لأنها تجب بحكم المعاوضة ( والثالث ) : يبدأ بنفسه ثم بمن شاء ( والرابع ) : أنه بالخيار في حقه وحق غيره ; لأن كل واحد منهم لو انفرد لزمه فطرته فإذا اجتمعوا تساووا ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث المذكور رواه البخاري ومسلم من رواية حكيم بن حزام وأبي هريرة ولفظه : " ابدأ بمن تعول " ورواه مسلم من رواية جابر ولفظه : { ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك } وقول المصنف ( البداية ) لحن وصوابه البداءة أو البدأة أو البدأة . وقد سبق مثله في مواقيت الصلاة ، ( وأما حكم المسألة ) فاتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه لا تجب الفطرة حتى تفضل نفقته ، ونفقة من يلزمه عن نفقته ليلة العيد ويومه ، وتفضل عن سائر المؤن التي سبق بيانها ، وفي الدين خلاف سبق ، وكذا في الخادم ، فإن وجد ما يؤدى عن بعضهم ، ففيه الأوجه الأربعة التي ذكرها المصنف بأدلتها ، ( أصحها ) : الأول ، ولو لم يجد إلا صاعا وله جماعة وأراد إخراجه عن جميعهم موزعا عنهم ، ( فإن قلنا ) بغير الوجه الرابع لم يجز ، ( وإن قلنا ) بالرابع وقلنا : وجد بعض صاع - لا يلزمه إخراجه - لم يجز أيضا ، وإلا فوجهان مشهوران ( الأصح ) : لا يجوز ; لأنه تمكن من فطرة واحد ولم يخرجها ( والثاني ) : يجوز ، حكاهالفوراني وصاحب " البيان " وآخرون .

                                      . وحيث قلنا : يخرج الصاع عن نفسه ، فأخرج عن غيره لا يجزئه ، [ ص: 79 ] وتثبت فطرته في ذمته ، ذكره البغوي وغيره ، ولو كان معه صاعان فأخرج أحدهما عن نفسه وله أقارب في مرتبة ، كابنين كبيرين أو صغيرين ، أو كان له زوجتان فالصحيح : أنه يتخير ويخرجه عن أيهما شاء ، وفيه وجه : أنه يخرجه عنهما موزعا ، قال الرافعي : ولم يتعرضوا للإقراع ، وله مجال في نظائره .

                                      وحكى السرخسي وإمام الحرمين وصاحب " البيان " وجها أنه يقدم فطرة الأم على فطرة الأب ، ووجها أنهما سواء فيخرجه عن أيهما شاء ، ووجها أنه يقدم فطرة الابن الكبير على الأب والأم ; لأن النص ورد بنفقته ، والفطرة تتبعها ، ووجها عن ابن أبي هريرة : أنه يقدم فطرة الأقارب على فطرة الزوجة ; لأنه قادر على إزالة سبب الزوجية بالطلاق بخلاف القرابة ، وهذا الوجه حكاه أيضا القاضي أبو الطيب في " المجرد " والمحاملي وآخرون ، قال السرخسي : واختاره القفال عن ابن أبي هريرة ، فإذا ضممنا هذه الأوجه الأربعة مع وجه التوزيع إلى الأوجه الأربعة التي ذكرها المصنف ، حصل في المسألة تسعة أوجه متباينة .

                                      وحكى الماوردي وجها غريبا : أنه يخرجه عن أحد الجماعة لا بعينه ، فحصل في المسألة عشرة أوجه أصحها : الأول الذي ذكره المصنف ، وصححه القاضي أبو الطيب والمحاملي والسرخسي والرافعي وآخرون ، وصحح الشيخ أبو حامد والماوردي والجرجاني التخيير ، قالوا : وهو ظاهر نصه في " المختصر " ، والأول : أصح ، ولا نسلم لهم أنه ظاهر النص ، فإن النص أدى عن بعضهم ، وليس في هذا تصريح بالتخيير فالمذهب : الوجه الأول . والله أعلم .

                                      ( فإن قيل ) : ذكر المصنف والأصحاب هنا : أن الأصح أن الأقارب يرتبون في الفطرة كما يرتبون في النفقة ، وذكروا ما ذكره المصنف ، وهو تقديم الابن الصغير ، ثم الأب ، ثم الأم ، ثم الابن الكبير ، فقدموا الأب على الأم ، وقالوا في النفقات : الأصح تقديم الأم على الأب : فكيف يصح قولهم : يرتبون هنا كالنفقة ؟ فالجواب : أن النفقة تجب [ ص: 80 ] لسد الخلة ودفع الحاجة ، والأم أكثر حاجة وأقل حيلة وأكثر خدمة للولد ، فوجب تقديمها بالنفقة التي تتضرر بتركها ، وأما الفطرة فلا تجب لحاجة ولا لدفع ضرر ، بل لتطهير المخرج عنه وتشريفه ، والأب أحق بها ، فإنه منسوب إليه ، ويشرف بشرفه ، ومراد الأصحاب بقولهم : كالنفقة أي : تجب مرتبة كما تجب النفقة مرتبة ، وكيفية ترتيبها متفق عليه في معظمه ، وهذا مراد المصنف ، وترتيبهم في النفقة كما ذكرنا . والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو فضل عن مؤنته صاع واحد ، وله عبد ، أخرج الصاع عن نفسه ، وهل يلزمه أن يبيع في فطرة العبد جزءا منه ، فيه ثلاثة أوجه ، حكاها إمام الحرمين وآخرون ، ( أحدها ) : يلزمه ( والثاني ) : لا ( وأصحها ) : إن لم يحتج إلى خدمته لزمه وإلا فلا ، هذا هو الأصح المعتمد ، وصحح إمام الحرمين اللزوم مطلقا ، ونقله عن الأكثرين . والمذهب : ما سبق تصحيحه . وهو الموافق للنص السابق في فطرة عبد ولده الصغير إذا احتاج إلى خدمته .




                                      الخدمات العلمية