الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إذا تمهد هذا فلنشرع في تفسير الآيات ، ونقول أولا : إن وجه اتصالها بما قبلها هو أنه - تعالى - نهاهم في تلك عن اتخاذ بطانة من الأعداء المعروفين بالعداوة لهم ، وأعلمهم ببعضهم إياهم وإن خادعهم أفراد منهم بدعوى الإيمان ، وأنهم إن يصبروا ويتقوا ما يجب اتقاؤه لا يضرهم كيدهم شيئا ، وبعد هذا البيان ذكرهم في هذه الآيات بوقعة أحد وما كان فيها من كيد المنافقين إذ قالوا ما قالوا أولا وآخرا ، وإذ خرجوا ثم انشقوا ورجعوا ليخذلوا المؤمنين ويوقعوا الفشل فيهم ، ومن كيد المشركين وتألبهم الذي لم يكن له من دافع إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا موقعهم وإلا التقوى ، ومنها - بل أهمها - طاعة الرسول فيما أمر به هؤلاء الرماة ، وذكرهم أيضا بوقعة بدر إذ نصرهم على قلتهم بصبرهم وتقواهم . قال - تعالى - : وإذ غدوت من أهلك أي واذكر بعد هذا يا محمد إذ خرجت من بيت أهلك غدوة ، وذلك سحر يوم السبت سابع شوال من سنة ثلاث للهجرة تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال أي توطنهم وتنزلهم أماكن ومواضع في الشعب من أحد لأجل القتال فيها ، فمنها موضع للرماة وموضع للفرسان وموضع لسائر المؤمنين ، فالمقاعد : جمع مقعد وهو في الأصل مكان القعود كالمجلس لمكان الجلوس والمقام لمكان القيام ، ثم استعملت هذه الألفاظ كلها بمعنى المكان توسعا . وقيل : تبوئة المقاعد تسويتها وتهيئتها والله سميع عليم لم يخف عنه شيء مما قيل في مشاورتك لمن معك في أمر الخروج إلى لقاء المشركين في أحد أو انتظارهم في المدينة ، فهو قد سمع أقوال المشيرين وعلم نية كل قائل ، وأن منهم المخلص في قوله وإن أخطأ في رأيه كالقائلين بالخروج إليهم ، ومنهم غير المخلص في قوله - وإن كان صوابا - كعبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين ، ويصح أن يكون الوصفان الكريمان متعلقا للظرف في الآية التالية - كما نبينه في تفسيرها .

                          وذهب ابن جرير إلى أن الخطاب في هذه الآية للنبي ، والمراد به أصحابه ، يضرب لهم مثلا أو مثلين على صدق وعده في الآية السابقة وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا بتذكيرهم بما كان يوم أحد من وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر والتقوى ، وذنب [ ص: 90 ] الجماعة أو الأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما ، وبما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم وذلتهم ، وهذا الرأي يتفق مع ما ذكرناه في وجه الاتصال بين الآيات .

                          إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا قال ابن جرير : يعني بذلك جل ثناؤه والله سميع عليم حين همت طائفتان منكم أن تفشلا . والهم : حديث النفس وتوجهها إلى الشيء ، والفشل ضعف مع جبن . وقيل : إن هذا بدل من قوله : وإذ غدوت وقيل : متعلق بـ تبوئ أي كان - صلى الله عليه وسلم - يتخذ المعسكر للمؤمنين وينزل كل طائفة منهم منزلا في وقت همت فيه طائفتان منهم بالفشل افتتانا بكيد المنافقين الذين رجعوا من العسكر . والطائفتان هما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار - كما تقدم في القصة - والله وليهما أي متولي أمورهما لصدق إيمانهما ، لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألم بهما عند رجوع نحو ثلث العسكر بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين فوثقا به وتوكلا عليه وعلى الله فليتوكل المؤمنون أمثالهم ، لا على حولهم وقوتهم ، ولا على أعوانهم وأنصارهم ، وإنما يبذلون حولهم وقوتهم ويأخذون أهبتهم وعدتهم إقامة لسنن الله - تعالى - في خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات ، وهو الفاعل المسخر للسبب والمسبب والموفق بينهما ، فينصر الفئة القليلة على الكثيرة إن شاء كما نصر المؤمنين يوم بدر ; ولذلك قال :

                          ولقد نصركم الله ببدر وهو ماء أو بئر بين مكة والمدينة كان لرجل اسمه بدر فسمي باسمه ثم أطلق اللفظ على المكان الذي هو فيه . وقد كانت فيه أول غزوة قاتل فيها النبي المشركين في 17 رمضان من السنة الثانية من الهجرة فنصره الله عليهم نصرا مؤزرا وأنتم أذلة أي نصركم في حالة ذلة كنتم فيها على قلتكم - كما يفيده لفظ أذلة ، إذ هو جمع قلة - وقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا . والمراد بكونهم أذلة أنهم لا منعة لهم إذ كانوا قليلي العدة من السلاح والظهر ( أي ما يركب ) والزاد . ولا غضاضة في الذل إلا إذا كان عن قهر من البغاة والظالمين ، ولم يكن المؤمنون بمقهورين ولا مستذلين من الكافرين وإنما كانت قوتهم في أوائل تكونها فاتقوا الله لعلكم تشكرون فإن التقوى هي التي تعدكم للقيام في مقام الشكر على النعم التي يسديكم إياها ، فمن لم يرض نفسه بالتقوى غلب عليه اتباع الهوى فلا يرجى له أن يكون شاكرا يصرف النعمة إلى ما وهبت لأجله من الحكم والمنافع .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية