الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) رجلان أقرا أنهما سرقا هذا الثوب من هذا الرجل والرجل يدعي ذلك فلما أمر الحاكم بقطعهما قال أحدهما : الثوب ثوبنا لم نسرقه قال يدرأ القطع عنهما ; لأن المعترض [ ص: 194 ] من دعوى الملك من أحدهما كالمقترن بالسبب ، ألا ترى أنهما لو ادعيا جميعا الملك بعد القضاء كان شبهة في درء الحد بمنزلة المقترن بالسبب ، فكذلك إذا ادعى ذلك أحدهما ، وهذا ; لأن الحد وجب عليهما في شيء واحد ، وقد آل الأمر إلى الخصومة والاستحلاف في ذلك الشيء ، ولو كان أحدهما قال : سرقنا هذا الثوب من هذا الرجل وقال الآخر : كذبت لم نسرقه ، ولكنه لفلان قال : يقطع المقر بالسرقة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله : أحب إلي أن لا يقطع واحد منهما .

وكذلك لو قال أحدهما : سرقناه وقال الآخر : لم أسرق معك ، ولا أعرفك ، ولا أعرف هذا الثوب فهو على الخلاف ، وقد كان أبو يوسف رحمه الله تعالى أولا يقول كقول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ثم رجع . وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن المقر منهما أقر بسرقة شيء واحد ، وقد تعذر إيجاب القطع على واحد منهما لإنكاره فصار ، كما لو تعذر إيجاب الحد عليه لدعواه الملك لنفسه فيكون شبهة في درء الحد عنهما . وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أن المقر أقر بالفعل الموجب للعقوبة على نفسه وعلى غيره ، وقد انعدم أصل الفعل في حق الآخر لتكذيبه فلا يوجب ذلك شبهة في الفعل الثابت في حق المقر بإقراره ، ولا في موجبه ، كما لو قال : قتلت أنا وفلان فلانا ، وقال الآخر : أنا ما قتلت فالقصاص واجب على المقر ، وكذلك لو قال : زنيت أنا وفلان بفلانة وكذبه الآخر كان على المقر الحد بخلاف ما لو ادعى الآخر الملك ، فإن أصل الفعل ثبت هناك مشتركا لاتفاقهما ثم امتنع وجوب القصاص على أحدهما للشبهة فيمتنع وجوبه على الآخر للشركة ، كما في المقرين بالقتل إذا زعم أحدهما أنه كان مخطئا .

وقد ذكر في الحدود أنه إذا أقر أنه زنى بامرأة وكذبته أنه لا حد عليه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وعندهما يقام عليه الحد فمحمد رحمه الله تعالى يسوي بين الفصلين ويقول : تكذيب المكذب لا يؤثر في حق المقر وأبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما فيقول : هناك يقام الحد عليه وها هنا لا يقام ; لأن فعلها في الزنا ليس من جنس فعله ، فإن فعله إيلاج وفعلها تمكين وهي في الحقيقة محل الفعل والمباشر هو الرجل فانتفاؤه في جانبها بتكذيبها لا يمكن شبهة الرجل وها هنا الفعل من السارقين واحد والمشاركة بينهما تتحقق فانتفاؤه عن أحدهما بإنكاره يمكن شبهة في حق الآخر ، كما في القتل إذا اشترك الخاطئ مع العامد وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بينهما أيضا فيقول هناك لا يقام عليه الحد وهنا يقام على المقر منهما ; لأن فعل الزنا من الرجل لا يتصور [ ص: 195 ] بدون المحل ، وقد انعدم المحل بتكذيبها ، فأما فعل السرقة من المقر يتحقق بدون الآخر فانتفاء الفعل في حق الآخر بإنكاره لا يمنع تقرر الفعل في حق المقر موجبا للقطع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب .

التالي السابق


الخدمات العلمية