الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) ففيه أبحاث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : قال صاحب " الكشاف " : طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وأخذ وأنشأ وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا وبينها وبينه مسافة قصيرة ، وهي للشروع في أول الأمر ، وكاد لمقاربته والدنو منه .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : قرئ يخصفان للتكثير والتكرير من خصف النعل ، وهو أن يخرز عليها الخصاف أي يلزقان الورقة على سوآتهما للستر وهو ورق التين ، أما قوله : ( وعصى آدم ربه فغوى ) فمن الناس من تمسك بهذا في صدور الكبيرة عنه من وجهين : الأول : أن العاصي اسم للذم فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها ) [النساء : 14] ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلا يعاقب عليه . والوجه الثاني : أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان والغي ضد الرشد ومثل هذا الاسم لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه . أجاب قوم عن الكلام الأول فقالوا : المعصية مخالفة الأمر ، والأمر قد يكون بالواجب والندب فإنهم يقولون : أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني ، وأمرته بشرب الدواء فعصاني ، وإذا كان الأمر كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم لا لكونه تاركا للواجب بل لكونه تاركا للمندوب ، فأجاب المستدل عن هذا الاعتراض بأنا بينا أن ظاهر القرآن يدل على أن العاصي مستحق للعقاب ، والعرف يدل على أنه اسم ذم فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب ، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصيا لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة في كل حال لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب ، فإن قيل : وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد ، قلنا : لما سلمت كونه مجازا فالأصل عدمه ، أما قوله : أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني ، قلنا : لا نسلم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب ، ولئن سلمنا ذلك ولكنهم إنما يطلقون ذلك إذا جزموا على المستشير بأنه لا بد وأن يفعل ذلك الفعل وأنه لا يجوز الإخلال بذلك الفعل وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلا وإن لم يكن الوجوب حاصلا ، وذلك يدل على أن لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب ، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى يقتضي الوجوب ، فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم عليه السلام إنما كان لكونه تاركا للواجب ، ومن الناس من سلم أن الآية تدل على صدور المعصية منه لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر ، وهذا قول عامة المعتزلة وهو أيضا ضعيف ، لأنا بينا أن اسم العاصي اسم للذم ، ولأن ظاهر القرآن يدل على أنه يستحق العقاب وذلك لا يليق بالصغيرة ، وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف وكذلك القول في غوى ، وهذا أيضا بعيد لأن مصالح الدنيا تكون مباحة ، ومن يفعلها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم للذم ولا يقال : ( فدلاهما بغرور ) [ ص: 111 ] وأما التمسك بقوله تعالى : ( فغوى ) فأجابوا عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه خاب من نعيم الجنة ؛ وذلك لأنه لما أكل من تلك الشجرة ليصير ملكه دائما ثم لما أكل زال فلما خاب سعيه وما نجح قيل إنه غوى ، وتحقيقه أن الغي ضد الرشد ، والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء يوصل إلى المقصود فمن توصل بشيء إلى شيء فحصل له ضد مقصوده كان ذلك غيا . وثانيها : قال بعضهم : غوى أي بشم من كثرة الأكل ، قال صاحب الكشاف : هذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا ، فيقول في فني وبقي فنا وبقا ، وهم بنو طيئ ، فهو تفسير خبيث ، واعلم أن الأولى عندي في هذا الباب والأحسم للشغب أن يقال : هذه الواقعة كانت قبل النبوة ، وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة . وههنا بحث لا بد منه وهو أن ظاهر القرآن وإن دل على أن آدم عصى وغوى لكن ليس لأحد أن يقول : إن آدم كان عاصيا غاويا ، ويدل على صحة قولنا أمور :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال العتبي : يقال لرجل قطع ثوبا وخاطه قد قطعه وخاطه ، ولا يقال : خائط ولا خياط حتى يكون معاودا لذلك الفعل معروفا به ، ومعلوم أن هذه الزلة لم تصدر عن آدم عليه السلام إلا مرة واحدة فوجب أن لا يجوز إطلاق هذا الاسم عليه . وثانيها : أن على تقدير أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة ، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرفه بالرسالة والنبوة إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن أسلم بعد الكفر إنه كافر بمعنى أنه كان كافرا ، بل وبتقدير أن يقال : هذه الواقعة وقعت بعد النبوة لم يجز أيضا أن يقال ذلك لأنه عليه السلام تاب عنها ، كما أن الرجل المسلم إذا شرب الخمر أو زنى ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك إنه شارب خمر أو زان فكذا ههنا . وثالثها : أن قولنا : عاص وغاو يوهم كونه عاصيا في أكثر الأشياء وغاويا عن معرفة الله تعالى ولم ترد هاتان اللفظتان في القرآن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عصى فيها فكأنه قال : عصى في كيت وكيت وذلك لا يوهم التوهم الباطل الذي ذكرناه . ورابعها : أنه يجوز من الله تعالى ما لا يجوز من غيره ، كما يجوز للسيد في عبيده وولده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغير السيد في عبده وولده ، أما قوله : ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) فالمعنى ثم اصطفاه فتاب عليه أي عاد عليه بالعفو والمغفرة وهداه رشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار وقبل الله منه ذلك ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود كان بكاؤه أكثر ، ولو جمع كل ذلك إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ، وإنما سمي نوحا لنوحه على نفسه ، ولو جمع كل ذلك إلى بكاء آدم لكان بكاء آدم على خطيئته أكثر " وقال وهب : إنه لما كثر بكاؤه أوحى الله تعالى إليه وأمره بأن يقول : " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين " فقالها آدم عليه السلام ثم قال : قل " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين " ثم قال قل : " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم " قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الكلمات هي التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية