الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه قال رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط سهل فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله هل لك في سهل بن حنيف والله ما يرفع رأسه فقال هل تتهمون له أحدا قالوا نتهم عامر بن ربيعة قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا فتغيظ عليه وقال علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت اغتسل له فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ليس به بأس

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          1747 1698 - ( مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، أنه قال : رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف ) ، ظاهره الإرسال لكنه سمع ذلك من والده ، ففي رواية ابن أبي شيبة عن شبابة عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي أمامة عن أبيه : أن عامرا أمر به وهو ( يغتسل ) ، ولأحمد ، والنسائي ، وصححه ابن حبان من وجه آخر عن الزهري عن أبي أمامة أن أباه حدثه : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ، وساروا معه نحوا ما حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف ، وكان أبيض حسن الجسم والجلد ، فنظر إليه عامر بن ربيعة ، ( فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ) - بضم الميم ، وخاء معجمة ، وموحدة ، والهمز - وهي [ ص: 508 ] المخدرة المكنونة التي لا تراها العيون ، ولا تبرز للشمس فتغيرها ، يعني أن جلد سهل كجلد المخبأة إعجابا بحسنه ، قال عبد الله بن قيس الرقيات :

                                                                                                          ذكرتني المخبآت لدى الحج ر ينازعنني سجوف الحجال



                                                                                                          ومر في رواية محمد عن أبيه أبي أمامة : ولا جلد عذراء بدل مخبأة ، فكأنه جمع بين اللفظين ، فقال : عذراء مخبأة فاقتصر كل راء على ما سمعه منه ، أو إحداهما بالمعنى ، لكن لا شك أن مخبأة أخص .

                                                                                                          ( فلبط ) - بضم اللام وكسر الموحدة وطاء مهملة - أي صرع وسقط إلى الأرض ( بسهل ) ، يقال منه لبط به يلبط لبطا .

                                                                                                          وقال ابن وهب : لبط : وعك وكأنه فسره بالرواية السابقة جمعا بينهما لاتحاد القصة ، ولا يتعين لجواز أن سقوطه من شدة وعكه ، كما قدمته ، وهذا أولى إبقاء للفظين على حقيقتهما .

                                                                                                          زاد ابن أبي ذئب عن الزهري : حتى ما يعقل لشدة الوجع ، ( فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له : يا رسول الله هل لك في سهل بن حنيف ، والله ما يرفع رأسه ) من شدة الوعك والصرع ، ( فقال : هل تتهمون له أحدا ؟ ) عانه ، ( قالوا : نتهم عامر بن ربيعة ) ، وكأنهم لما قالوا ذلك ذهب - صلى الله عليه وسلم - إلى سهل لتثبت الخبر منه ، كما قال في الحديث السابق : " فأتاه رسول الله فأخبره سهل " ، ولم يذكر في الطريق السابقة أنه قال لهم : هل تتهمون . . . إلخ ، ففي كل من الطريقين اختصار .

                                                                                                          ( قال : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامر بن ربيعة ، فتغيظ عليه ، وقال : علام ) ، أي لم ( يقتل أحدكم أخاه ) ، أي يكون سببا في قتله بالعين ( ألا ) ، وفي رواية : هلا ( بركت ) ، أي دعوت له بالبركة .

                                                                                                          ، وابن ماجه من وجه آخر عن أبي أمامة : " إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه ، فليدع له بالبركة " ، ومثله عند ابن السني ، عن عامر بن ربيعة ( اغتسل له ) وجوبا ; لأن الأمر حقيقته الوجوب ، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينفعه لا سيما إذا كان بسببه ، وكان هو الجاني عليه ، فواجب على العائن الغسل عنه ، قاله ابن عبد البر .

                                                                                                          ( فغسل عامر وجهه ويديه ) ، وفي رواية : بدل هذا ، وظاهر كفيه ، ( ومرفقيه ) ، زاد في رواية : وغسل صدره ، ( وركبتيه ، وأطراف رجليه ، وداخلة إزاره ) ، هي الحقو تجعل من تحت الإزار في طرفه ، ثم يشد عليه الإزرة ، قاله ابن وهب عن مالك ، ونحوه قول ابن حبيب : هي الطرف المتدلي الذي يضعه المؤتزر أولا على حقوه الأيمن .

                                                                                                          وقال الأخفش : هي الجانب الأيسر من الإزار الذي تعطفه إلى يمينك ، ثم يشد الإزار قاله ابن [ ص: 509 ] عبد البر .

                                                                                                          وقال المازري : ظن بعضهم أنه كناية عن الفرج ، والجمهور أنه الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن .

                                                                                                          وقال عياض : المراد بداخلة الإزار ما يلي الجسد من المئزر ، وقيل : موضعه من الجسد ، وقيل : مذاكيره ، كما يقال : عفيف الإزار ، أي الفرج ، وقيل : وركه إذ هو معقد الإزار .

                                                                                                          ( قدح ) زاد في رواية ، قال : وحسبته قال ، وأمر فحسا منه حسوات ، ( ثم صب عليه ، فراح سهل مع الناس ليس به بأس ) لزوال علته .

                                                                                                          قال الزهري : هذا من العلم يغتسل العائن في قدح من ماء يدخل يده فيه ، فيمضمض ويمجه في القدح ، ويغسل وجهه فيه ، ثم يصب بيده اليسرى على كفه اليمنى ، ثم باليمنى على كفه اليسرى ، ثم يدخل يده اليسرى ، فيصب بها على مرفق يده اليمنى ، ثم بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى ، ثم يغسل قدمه اليمنى ، ثم يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى ، ثم يدخل يده اليمنى ، فيغسل الركبتين ، ثم يأخذ داخلة إزاره فيصب على رأسه صبة واحدة ، ويضع القدح حتى يفرغ ، هكذا رواه ابن أبي ذئب عن الزهري عند ابن أبي شيبة ، وهو أحسن ما فسر به لأن الزهري راوي الحديث .

                                                                                                          وزاد ابن حبيب في قول الزهري هذا : يصب من خلفه صبة واحدة يجري على جسده ، ولا يوضع القدح في الأرض ، ويغسل أطرافه المذكورة كلها ، وداخلة الإزار في القدح ، قاله في التمهيد .

                                                                                                          زاد في الإكمال : أن الزهري أخبر أنه أدرك العلماء يصفونه ، واستحسنه علماؤنا ومضى به العمل .

                                                                                                          قال : وجاء عن ابن شهاب من رواية عقيل مثله إلا أن فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة ، وفيه غسل القدمين ، أنه لا يغسل جميعهما ، وإنما قال : ثم يفعل مثل ذلك في طرف قدمه اليمنى من عند أصول أصابعه واليسرى كذلك اه .

                                                                                                          وهو أقرب لقول الحديث : وأطراف رجليه ، وهذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة ، أما عند الإصابة به ، وقبل الاستحكام ، فقد أرشد الشارع إلى دفعه بقوله : ألا بركت ؟ قال المازري : وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ، ومعرفة وجهه من جهة العقل ، وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات ، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه .

                                                                                                          وقال ابن العربي : إن توقف فيه متشرع قلنا : الله ورسوله أعلم ، وقد عضدته التجربة ، وصدقته المعاينة ، أو متفلسف فالرد عليه أظهر ; لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها بمعنى لا يدرك ، ويسمون ما هذا سبيله الخواص .

                                                                                                          وقال ابن القيم : هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ، ولا من سخر منها ، ولا من شك فيها ، أو فعلها مجربا غير معتقد وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها ، بل هي عندهم خارجة عن القياس ، وإنما تفعل بالخاصية ، فما الذي ينكره جهلتهم من الخواص الشرعية ؟ هذا مع أن المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تلقاها العقول الصحيحة ، فهذا ترياق سم الحية ، يؤخذ من لحمها ، وهذا علاج النفس الغضبية بوضع اليد على بدن الغضبان ، فيسكن فكان أثر تلك [ ص: 510 ] العين كشعلة نار وقعت على جسد ، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة ، ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة المنفوذ فيها ، ولا شيء أرق من المعاين ، فكان في غسلها إبطال لعملها ، ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصا ، وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا ، فتطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء اه .

                                                                                                          وفي الحديث : أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال ، وأنه من النشرة النافعة ، وأن العين تكون مع الإعجاب بغير حسد ، ولو من الرجل المحب ، ومن الرجل الصالح ، وأن الذي يعجبه الشي يبادر إلى الدعاء لمن أعجبه بالبركة ، ويكون ذلك رقية منه ، وأن الماء المستعمل طاهر ، وأن الإصابة بالعين قد تقتل ، وفي القصاص خلاف تقدم بين المالكية والشافعية .




                                                                                                          الخدمات العلمية