الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 155 ] [ الالتفات ]

الالتفات : نقل الكلام من أسلوب إلى آخر ، أعني : من المتكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول . وهذا هو المشهور . وقال السكاكي : إما ذلك أو التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره .

وله فوائد :

منها تطرية الكلام ، وصيانة السمع عن الضجر والملال ، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات ، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد ، وهذه فائدته العامة . ويختص كل موضع بنكت ولطائف باختلاف محله كما سنبينه .

مثاله - من التكلم إلى الخطاب - : ووجهه حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه ، وأعطاه فضل عناية تخصيص بالمواجهة ، قوله تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون [ يس : 22 ] ، والأصل : ( وإليه أرجع ) ، فالتفت من التكلم إلى الخطاب ، ونكتته : أنه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه وهو يريد نصح قومه ، تلطفا وإعلاما أنه يريد لهم ما يريد لنفسه ، ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله تعالى . كذا جعلوا هذه الآية من الالتفات ، وفيه نظر ؛ لأنه إنما يكون منه إذا قصد الإخبار عن نفسه في كلتا الجملتين ، وهنا ليس كذلك لجواز أن يريد بقوله ( ترجعون ) المخاطبين لا نفسه .

وأجيب : بأنه لو كان المراد ذلك لما صح الاستفهام الإنكاري ؛ لأن رجوع العبد إلى [ ص: 156 ] مولاه ليس بمستلزم أن يعيده غير ذلك الراجع . فالمعنى : كيف لا أعبد من إليه رجوعي ، وإنما عدل عن : ( وإليه أرجع ) إلى : وإليه ترجعون ؛ لأنه داخل فيهم ، ومع ذلك أفاد فائدة حسنة ، وهي تنبيههم على أنه مثلهم في وجوب عبادة من إليه الرجوع .

من أمثلته أيضا قوله تعالى : وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة [ الأنعام : 71 ، 72 ] . ومثاله - من التكلم إلى الغيبة - : ووجهه أن يفهم السامع أن هذا نمط المتكلم وقصده من السامع ؛ حضر أو غاب ، وأنه ليس في كلامه ممن يتلون ويتوجه ، ويبدي في الغيبة خلاف ما يبديه في الحضور - قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله [ الفتح : 1 ، 2 ] ، والأصل : ( لنغفر لك ) . إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك [ الكوثر : 1 ، 2 ] ، والأصل : ( لنا ) . أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك [ الدخان : 158 ] ، والأصل : ( منا ) . إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] ، إلى قوله : فآمنوا بالله ورسوله [ الأعراف : 158 ] ، والأصل : ( وبي ) ، وعدل عنه لنكتتين : إحداهما دفع التهمة عن نفسه بالعصبية لها ، والأخرى : تنبيههم على استحقاقه الاتباع بما اتصف به من الصفات المذكورة والخصائص المتلوة .

ومثاله من الخطاب إلى التكلم لم يقع في القرآن ، ومثل له بعضهم بقوله : فاقض ما أنت قاض [ طه : 72 ] ، ثم قال : إنا آمنا بربنا [ طه : 73 ] ، وهذا المثال لا يصح ؛ لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحدا .

ومثاله من الخطاب إلى الغيبة : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم [ يونس : 22 ] ، والأصل : ( بكم ) ، ونكتة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم ، التعجب من كفرهم وفعلهم ؛ إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة .

وقيل : لأن الخطاب أولا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل : هو الذي يسيركم في البر والبحر [ يونس : 22 ] ، فلو كان ( وجرين بكم ) للزم الذم للجميع ، فالتفت عن الأول [ ص: 157 ] للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية ، عدولا من الخطاب العام إلى الخاص .

قلت : ورأيت عن بعض السلف في توجيهه عكس ذلك ؛ وهو أن الخطاب أوله خاص وآخره عام . فأخرج ابن أبي حاتم ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، أنه قال في قوله : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم [ يونس : 22 ] ، قال : ذكر الحديث عنهم ثم حدث عن غيرهم ، ولم يقل : ( وجرين بكم ) ؛ لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم ، وجرين بهؤلاء وغيرهم من الخلق . هذه عبارته ، فلله در السلف ما كان أوقفهم على المعاني اللطيفة التي يدأب المتأخرون فيها زمانا طويلا ، ويفنون فيها أعمارهم ، ثم غايتهم أن يحوموا حول الحمى .

ومما ذكر في توجيهه أيضا أنهم وقت الركوب حضروا ، إلا أنهم خافوا الهلاك وغلبة الرياح فخاطبهم خطاب الحاضرين ، ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن ، وأمنوا الهلاك لم يبق حضورهم كما كان ، على عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قلبه عن ربه ، فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة ، وهذه إشارة صوفية .

ومن أمثلته أيضا : وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون [ الروم : 39 ] ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون [ الحجرات : 7 ] ، ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم ، والأصل : ( عليكم ) ، ثم قال : وأنتم فيها خالدون [ الزخرف : 70 ، 71 ] ، فكرر الالتفات .

ومثاله من الغيبة إلى التكلم : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه [ فاطر : 9 ] ، وأوحى في كل سماء أمرها وزينا [ فصلت : 12 ] ، سبحان الذي أسرى بعبده إلى قوله : باركنا حوله لنريه من آياتنا ، ثم التفت ثانيا إلى الغيبة ، فقال : إنه هو السميع البصير [ الإسراء : 1 ] ، وعلى قراءة الحسن : ( ليريه ) بالغيبة يكون التفاتا ثانيا من ( باركنا ) ، وفي ( آياتنا ) التفات ثالث ، وفي ( إنه ) التفات رابع .

[ ص: 158 ] قال الزمخشري : وفائدته في هذه الآيات وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة ، وأنه لا يدخل تحت قدرة أحد .

ومثاله - من الغيبة إلى الخطاب - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا [ مريم : 88 ، 89 ] ، ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم [ الأنعام : 6 ] وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء [ الإنسان : 21 ، 22 ] ، إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك [ الأحزاب : 50 ] .

ومن محاسنه ما وقع في سورة الفاتحة : فإن العبد إذا ذكر الله وحده ثم ذكر صفاته ألقى كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال ، وآخرها : مالك يوم الدين المفيد أنه مالك الأمر كله في يوم الجزاء ، يجد من نفسه حاملا لا يقدر على دفعه على خطاب من هذه صفاته بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات .

وقيل : إنما اختير لفظ الغيبة للحمد ، وللعبادة الخطاب ، للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة ؛ لأنك تحمد نظيره ولا تعبده ، فاستعمل لفظ ( الحمد ) مع الغيبة ، ولفظ ( العبادة ) مع الخطاب ، لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة ما هو أعلى رتبة ، وذلك على طريقة التأدب .

وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال : الذين أنعمت عليهم مصرحا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظا ، ولم يقل : ( صراط المنعم عليهم ) ، فلما صار إلى ذكر الغضب ذوى عنه لفظه ، فلم ينسبه إليه لفظا ، وجاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب فلم يقل : ( غير الذين غضبت عليهم ) ؛ تفاديا عن نسبة الغضب إليه في اللفظ حال المواجهة .

وقيل : لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه ربا للعالمين ورحمانا ورحيما ومالكا ليوم الدين ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن ، حقيق بأن يكون معبودا دون غيره ، مستعانا به ، فخوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة تعظيما لشأنه ، حتى كأنه قيل : إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا غيرك .

قيل : ومن لطائفه التنبيه عن أن مبتدأ الخلق الغيبة منهم عنه سبحانه وتعالى ، وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته ، وقيام حجاب العظمة عليهم ، فإذا عرفوه بما هو لهم ، وتوسلوا للقرب بالثناء عليه ، وأقروا بالمحامد له ، تعبدوا له بما يليق بهم ، وتأهلوا لمخاطبته [ ص: 159 ] ومناجاته ، فقالوا : إياك نعبد وإياك نستعين

التالي السابق


الخدمات العلمية