الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال صاحب " الكشاف " قوله تعالى : ( أني مسني الضر ) أي ناداه بأني مسني الضر ، وقرئ " إني " بالكسر على إضمار القول ، أو لتضمين النداء معناه ، والضر بالفتح ؛ الضرر في كل شيء ، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : أنه عليه السلام ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب ، فإن قيل : أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابرا ؟ الجواب : قال سفيان بن عيينة رحمه الله من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعا إذا كان في شكواه راضيا بقضاء الله إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء ، ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) [ يوسف : 86 ] أما قوله : ( وأنت أرحم الراحمين ) فالدليل على أنه سبحانه : ( أرحم الراحمين ) أمور :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن كل من رحم غيره فأما أن يرحمه طلبا للثناء في الدنيا ، أو الثواب في الآخرة ، أو دفعا للرقة الجنسية عن الطبع ، وحينئذ يكون مطلوب ذلك الراحم منفعة نفسه ، أما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير وجه من هذه الوجوه ، ومن غير أن يعود إليه من تلك الرحمة زيادة ولا نقصان من الثناء ، ومن صفات الكمال ، فكان سبحانه أرحم الراحمين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن كل من يرحم غيره فلا يكون ذلك إلا بمعونة رحمة الله تعالى ؛ لأن من أعطى غيره طعاما أو ثوبا أو دفع عنه بلاء ، فلولا أنه سبحانه خلق المطعوم والملبوس والأدوية والأغذية ، وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء ، ثم بعد وصول تلك العطية إليه ، فلولا أنه سبحانه جعله سببا للراحة لما حصل النفع بذلك ، فإذا رحمة العباد مسبوقة برحمة الله تعالى وملحوقة برحمته ، بل رحمتهم فيما بين الطرفين كالقطرة في البحر ، فوجب أن يكون تعالى هو أرحم الراحمين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الله تعالى لو لم يخلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور ذلك الفعل عنه ، فكان الراحم هو الحق سبحانه ، من حيث إنه هو الذي أنشأ تلك الداعية ، فثبت أنه أرحم الراحمين ؛ فإن قيل ؛ كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه سبحانه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام ، وسلط البعض على البعض بالذبح والكسر والإيذاء ، وكان قادرا على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وإيذائه ؟ والجواب : أن كونه سبحانه ضارا لا ينافي كونه نافعا ، بل هو الضار النافع ؛ فإضراره ليس لدفع مشقة ، وإنفاعه ليس لجلب منفعة ، بل لا يسأل عما يفعل .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فاستجبنا له ) فإنه يدل على أنه دعا ربه ، لكن هذا الدعاء قد يجوز أن يكون واقعا منه على سبيل التعريض ، كما يقال : إن رأيت أو أردت أو أحببت فافعل كذا ، ويجوز أن يكون على سبيل التصريح ؛ وإن كان الأليق بالأدب وبدلالة الآية هو الأول ، ثم إنه سبحانه بين أنه كشف ما به من ضر ، وذلك يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله ، وبين الله تعالى أنه آتاه أهله , ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد [ ص: 182 ] وغيرهما ؛ ثم فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والكلبي وكعب - رضي الله عنهم - : إن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم ؛ والثاني : روى الليث رضي الله عنه ، قال : أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال : قيل له : إن أهلك لك في الآخرة ، فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا ، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا . فقال : يكونون لي في الآخرة وأوتى مثلهم في الدنيا . والقول الأول أولى ؛ لأن قوله : ( وآتيناه أهله ) يدل بظاهره على أنه تعالى أعادهم في الدنيا ، وأعطاه معهم مثلهم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : ( وذكرى للعابدين ) ففيه دلالة على أنه تعالى فعل ذلك لكي يتفكر فيه ؛ فيكون داعية للعابدين في الصبر والاحتساب ، وإنما خص العابدين بالذكر [ ى ] لأنهم يختصون بالانتفاع بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية