الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الضرب الثاني : ما يظن تحقق أسبابها ووقوعه بظنون متفاوتة في القوة والضعف ، وهي أنواع : منها إقرار المقرين ، ثم شهادة أربع من المعدلين ، ثم شهادة رجلين من المؤمنين ، ثم شهادة رجل وامرأتين من الصالحين ، ثم شهادة عدل واحد مع اليمين .

ومنها شهادة أربع نسوة بما يخفى غالبا على الرجال المعدلين ، ومنها الأيمان الواقعة بعد نكول الناكلين .

ومنها أيمان القسامة مع اللوث على القائلين ، ومنها أيمان اللعان على القاذفين .

وأما يمين المدعى عليه وأيمان لعان النساء فدافعة للمدعى به غير موجبة له .

ومنها خبر الواحد في دخول الأوقات وتعريف جهات القبلة ، وتعريف ما وقع في الأواني من النجاسات .

[ ص: 50 ] ومنها : تقويم المقومين ، ومسح الماسحين ، وقسمة القاسمين ، وخرص الخارصين .

ومنها استلحاق المستلحقين ، وقيافة القائفين ، والانتساب عند عدم القيافة إلى الوالدين .

ومنها زفاف العروس إلى بعلها مع إخبارها بأنها زوجته أو مع إخبار غيرها من النساء ، ومنها إخبار المرأة عن حيضها وطهرها ، ومنها إخبار المكلف عما في يده أنه ملكه ، ومنها إخباره عن تحقق ما لا يعلم إلا من جهته كالثبات في الديون ، وإخبار المأذون والولي عما يعاملان به للمولى عليه ، ومنها وصف اللقطة ، وتبيين عفاصها ووكائها فإنه مجوز لدفعها ، ومنها دلالة الأيدي على استحقاق المستحقين .

ومنها دلالة الأيدي والتصرف إلى إملاك المالكين ، ومنها وصف اللقطة دلالة الاستفاضة على استحقاق ما استفاضت .

ومنها دلالة الدار على إسلام اللقيط ، ومنها دلالة وصف الأبنية وأشكالها على استحقاق المستحقين .

ومنها دلالة الاستطراق على اشتراك أهل المحلة فيما يستطرقون فيه إذا كان مفسدا من أحد طرفيه .

ومنها دلالة الأجنحة والميازيب والقنى والجداول والسواقي والأنهار على استحقاق ما اتصلت بملكه .

ومنها معاملة من يجهل رشده وحريته ، وأكل طعامه والحكم له وعليه بناء على أن الغالب في الناس الحرية .

ولو توقفت المعاملات على إثبات الرشد والحرية لما عاملنا كثيرا من التجار الواردين ، ولا من أهل الأسواق المقيمين ، ولا من أهل الصناع المتربصين لاستعمال المستعملين كالحاكة [ ص: 51 ] والأساكفة والخياطين والنجارين ، ولما جاز لسائل وفقير وعالم أن يتناولوا الزكاة والصدقة إلا ممن ثبت رشده وحريته عندهم من الباذلين ، ولا يخفى ما في هذا من العسر الشديد المؤدي إلى تعطيل المعاملات والمحاكمات والتبرعات ، وذلك على خلاف إجماع المسلمين .

وهذا ما غلب فيه الظاهر على استصحاب الأصل المقطوع به ، فإنا نقطع أن كل أحد إن كان تحت الحجر إذ هو صغير ، وقد زال حجر الصبي بالبلوغ ، فاحتمل بعد زواله أن يخلفه الرشد ، وجاز أن يخلفه حجر السفه ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، فيحجر على من قرب عهده بالبلوغ للشك في الرشد ، بل لقلة العفة على من قرب عهده ببلوغه ، فإذا انتهى إلى حد يغلب فيه الرشد عند الناس حكم برشده لغلبة الرشد عليه ، ولما ذكرته من إجماع المسلمين على معاملة المجهولين البالغين إلى حدود الرشد في الغالب .

ومنها استصحاب الأصول كمن لزمه طهارة أو صلاة أو زكاة أو حج أو عمرة أو دين لآدمي ثم شك في أداء ركن من أركانه أو شرط من شرائطه فإنه يلزمه القيام به ; لأن الأصل بقاؤه في عهدته ، ولو شك هل لزمه شيء من ذلك أو لزمه دين في ذمته ، أو عين في ذمته ، أو شك في عتق أمته أو طلاق زوجته ، أو شك في نذر أو شيء مما ذكرناه فلا يلزمه شيء من ذلك ; لأن الأصل براءة ذمته ، فإن الله خلق عباده كلهم أبرياء الذمم والأجساد من حقوقه وحقوق العباد إلى أن تتحقق أسباب وجوبها فهذه أدلة مفيدة لظنون متفاوتة في قوتها وضعفها أثبت ضعيفها لمسيس الحاجة إليه فاكتفى في الاستفاضة في السيب إلى الإبانة إذ لا سبيل إلى معرفته ، ولو ثبتت الاستفاضة لانسد باب إثبات الأنساب ، وإنما اكتفى في الأموال ومنافع الأموال بالشاهد واليمين ; لكثرة التصرف بينهما والارتفاق في الظعن والإقامة ، فلو شرط فيهما عدد الشهود لتعذر ذلك في كثير من الأحوال ، إذ لا يتيسر العدد في كل مكان من الحضر أو السفر واكتفى في النساء [ ص: 52 ] المجردات فيما لا يطلع عليه الرجال إذ لو لم نكتف بهن لغلب ضياع ذلك الحق وفواته ، وقد ذهب بعض العلماء إلى شرط الأربعة في القتل ; لأنه أعظم من الزنا ، وليس الأمر كما ظنه بل الغرض من كثرة العدد في الزنا ستر الأعراض ، ودفع العار عن العشائر والقبائل فضيق الشرع طريق إثباته دفعا لمفاسده إذ لا يتيسر حضور أربعة من العدول يشاهدون زنا الزانين ، ولا عار على القاتلين ، ولا على عشائرهم في الغالب بل قد يتبجج كثير من الناس بقتل الأعداء وتتمدح به عشائرهم .

وذلك كثير مشهور في أسفار العرب والناس كلهم حراس على كتم الفواحش كالزنا واللواط ، وقد عيب على امرئ القيس ذكره مقدم الزنا في بعض قصائده ولا يتصور كذب العلم وإخلافه ، والظن يتصور الكذب والإخلاف .

إلا أن الصدق والوفاق غالب عليه ، ولذلك اعتبره الشرع واتبعه العقلاء في التصرفات الدنيوية ، فإن الصدق الظن المستفاد مع جميع الأدلة المذكورة ، فقد حصل مقصود الشرع من جلب المصالح ودرء المفاسد ظاهرا وباطنا ، وإن كذب الظن فقد فاتت المصالح وتحققت المفاسد ولم يحصل مقصود الشرع من ذلك ، ويعفى عن كذبه في حق العاملين به لجهلهم بكذبه ، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها وطاقتها .

فإن قيل : ما تقولون إذا تعارضت الأدلة ؟ قلنا : أما أدلة نصب الشريعة ووضع الأحكام فالأصح أن المجتهد لا يتخير بين الدليلين بل يتوقف إلى أن يظهر له ترجح من نسخ وغيره ، فإن بذل جهده فلم يظفر بمرجح ، ورجع حينئذ إلى القياس ، وإذا ليس أحد الدليلين بأولى من الآخر ، ولا يتصور تعارض علمين ، ولا تعارض ظنين ; لأن ذلك مؤد إلى الجمع بين النفي والإثبات في شيء واحد في زمن واحد ، وإنما يقع التعارض بين أدلتها التي ذكرناها ، فتعارض الشهادتان والخبران والأصلان والظاهران .

وكذلك [ ص: 53 ] يتعارض الأصل والظاهر ، وتعارضت الأدلة المفيدة للظنون ، فإن كان التعارض بين ظاهرين كشهادتين متناقضتين أو خبرين متناقضين فإن كانا متساويين من كل وجه وجب التوقيف ; لانتفاء الظن الذي هو مستند الأحكام ، إذ لا يجوز الحكم في الشرع إلا بعلم أو اعتقاد ، فإذا تعارض دليلان ظنيان فإن وجدنا من أنفسنا الظن المستند إلى أن أحد الدليلين حكمنا به .

وإن وجدنا الشك والتردد على سواء وجب التوقف ، وإنما يجب الظن عند التعارض بين أحدهما ; لأن الظن المستفاد منه عند انفراده أقوى من الظن المستفاد من معارضه في حال الانفراد .

مثال ذلك اليد : ظاهرة في استحقاق ذي اليد ، والبينة والإقرار واليمين المردودة مرجحة ; لقوة إفادتها الظن ، فإذا تعارضت بينتان ولم نجد ظنا لتساويهما من كل وجه ، فقد اختلف في ذلك ، والأصح ما ذكرناه من سقوطهما ، فإن القرع بينهما لا يفيد رجحان أحدهما بالقرعة ، وإذا لم يرجح أحدهما حكمنا بالشك ، والحكم بالشك غير جائز ، والقرعة في الشرع لتعيين أحد المتساويين ، وههنا لا يعين رجحانه ، والشك بعد وجودها مثله قبل وجودها ، إذ لم يفد رجحانا في الظن ، ولا بيانا فيه ، ومن قسم بين المتداعيين فقد خالف موجب البينتين في نصف ما شهدت به ; لأن كل واحدة منهما شاهدة بالجميع ، ولا يجوز أن يجعل تعارض البينتين المتساويتين كاجتماع اليدين على العينين ; لأن كل واحدة من اليدين مفيدة للظن غير مكذبة لصاحبتهما ، والبينتان ههنا متكاذبتان لا يحصل من واحدة منهما ظن ، والبينة ما فيه بيان .

فإذا لم يكن في كل واحدة منهما بيان كان الحكم بغير بينة على خلاف الشرع ، ومن ذهب إلى وقف البينتين إلى إصلاح الخصمين فما أبعد ، ولكنه يؤدي إلى تعطيل الحكم إلى اتفاق الاصطلاح .

التالي السابق


الخدمات العلمية