الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن من الناس من زعم أن ابن الزبعرى لما أورد ذلك السؤال على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقي ساكتا حتى أنزل الله تعالى هذه الآية جوابا عن سؤاله ؛ لأن هذه الآية كالاستثناء من تلك الآية ، وأما نحن فقد بينا فساد هذا القول ، وذكرنا أن سؤاله لم يكن واردا ، وأنه لا حاجة في دفع سؤاله إلى نزول هذه الآية ، وإذا ثبت هذا لم يبق هاهنا إلا أحد أمرين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يقال : إن عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار ، فلهذا السبب ذكر هذه الآية عقيب تلك فهي عامة في حق كل المؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعرى ، ثم من قال : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وهو الحق ، أجراها على عمومها ؛ فتكون الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام داخلين فيها ، لا أن [ ص: 196 ] الآية مختصة بهم ، ومن قال : العبرة بخصوص السبب خصص قوله : ( إن الذين ) بهؤلاء فقط .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( سبقت لهم منا الحسنى ) فقال صاحب " الكشاف " : الحسنى الخصلة المفضلة ، والحسنى تأنيث الأحسن ، وهي إما السعادة وإما البشرى بالثواب ، وإما التوفيق للطاعة ، والحاصل أن مثبتي العفو حملوا الحسنى على وعد العفو ، ومنكري العفو حملوه على وعد الثواب ، ثم إنه سبحانه وتعالى شرح من أحوال ثوابهم أمورا خمسة :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها قوله : ( أولئك عنها مبعدون ) فقال أهل العفو : معناه أولئك عنها مخرجون ، واحتجوا عليه بوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول قوله : ( وإن منكم إلا واردها ) أثبت الورود وهو الدخول ، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن إبعاد الشيء عن الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين ؛ لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن الآخر ؛ لأن تحصيل الحاصل محال .

                                                                                                                                                                                                                                            واحتج القاضي عبد الجبار على فساد هذا القول الأول بأمور :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن قوله تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) يقتضي أن الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا وليس هذا حال من يخرج من النار لو صح ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه تعالى قال : ( أولئك عنها مبعدون ) وكيف يدخل في ذلك من وقع فيها .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله تعالى : ( لا يسمعون حسيسها ) وقوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) يمنع من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : لا نسلم أن [ يقال ] المراد من قوله : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم ، ولم لا يجوز أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالعفو ؟ سلمنا أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالثواب ، لكن لم قلتم : إن الوعد بالثواب لا يليق بحال من يخرج من النار ، فإن عندنا المحابطة باطلة ، ويجوز الجمع بين استحقاق الثواب والعقاب ، وعن الثاني : أنا بينا أن قوله : ( أولئك عنها مبعدون ) لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار ، وعن الثالث : أن قوله : ( لا يسمعون حسيسها ) مخصوص بما بعد الخروج .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) فالفزع الأكبر هو عذاب الكفار ، وهذا بطريق المفهوم يقتضي أنهم يحزنهم الفزع الأصغر ، فإن لم يدل عليه فلا أقل من أن لا يدل على ثبوته ولا على عدمه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في تفسير قوله : ( أولئك عنها مبعدون ) أن المراد الذين سبقت لهم منا الحسنى لا يدخلون النار ولا يقربونها البتة ، وعلى هذا القول بطل قول من يقول : إن جميع الناس يردون النار ثم يخرجون إلى الجنة ؛ لأن هذه الآية مانعة منه ، وحينئذ يجب التوفيق بينه وبين قوله : ( وإن منكم إلا واردها ) وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الثانية : قوله تعالى : ( لا يسمعون حسيسها ) والحسيس الصوت الذي يحس ، وفيه سؤالان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أي وجه في أن لا يسمعوا حسيسها من البشارة ، ولو سمعوه لم يتغير حالهم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : المراد تأكيد بعدهم عنها ؛ لأن من لم يدخلها وقرب منها قد يسمع حسيسها .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : أليس أن أهل الجنة يرون أهل النار ، فكيف لا يسمعون حسيس النار ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الثالثة : قوله : ( وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ) والشهوة طلب النفس للذة ، يعني : نعيمها مؤبد ، قال العارفون : للنفوس شهوة ، وللقلوب شهوة ، وللأرواح شهوة ، وقال الجنيد : سبقت العناية في البداية ، فظهرت الولاية في النهاية .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الرابعة : قوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنها النفخة الأخيرة لقوله تعالى : ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض ) [ النمل : 87 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه الموت ، قالوا : إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، بعث الله تعالى جبريل عليه السلام ومعه الموت في صورة كبش أملح فيقول : لأهل الدارين أتعرفون هذا ؟ فيقولون : لا ، فيقول : هذا الموت ، ثم يذبحه ؛ ثم ينادي يا أهل الجنة ، خلود ولا موت أبدا ، وكذلك لأهل النار ، [ ص: 197 ] واحتج هذا القائل بأن قوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) إنما ذكر بعد قوله : ( وهم فيها خالدون ) فلا بد وأن يكون لأحدهما تعلق بالآخر ، والفزع الأكبر الذي هو ينافي الخلود هو الموت .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قال سعيد بن جبير : هو إطباق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة ، قال القاضي عبد الجبار : الأولى في ذلك أنه الفزع من النار عند مشاهدتها ؛ لأنه لا فزع أكبر من ذلك ، فإذا بين تعالى أن ذلك لا يحزنهم فقد صح أن المؤمن آمن من أهوال يوم القيامة ، وهذا ضعيف ؛ لأن عذاب النار على مراتب فعذاب الكفار أشد من عذاب الفساق ، وإذا كانت مراتب التعذيب بالنار متفاوتة كانت مراتب الفزع منها متفاوتة ، فلا يلزم من نفي الفزع الأكبر نفي الفزع من النار .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الخامسة : قوله : ( وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) قال الضحاك : هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم ، ويقولون لهم مبشرين : ( هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية