الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين

                          [ ص: 127 ] الكلام متصل بما قبله ، والخطاب فيه لمن شهد وقعة " أحد " من المؤمنين ، فإنه - تعالى - أرشدهم في الآيات السابقة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يضعفوا أو يحزنوا ، وبين لهم حكمة ما أصابهم وأنه منطبق على سنته في مداولة الأيام بين الناس وفي تمحيص أهل الحق بالشدائد ، وفي ذلك من الهداية والإرشاد والتسلية ما يربي المؤمن على الصفات التي ينال بها الغلب والسيادة بالحق ، ثم بين لهم هذا أن سعادة الآخرة لا تنال أيضا إلا بالجهاد والصبر فهي كسعادة الدنيا بإقامة الحق والسيادة في الأرض سنة الله فيهما واحدة فقال : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين وهذه الآية كالآية ( 214 ) من سورة البقرة والمعنى على الطريقة التي اختارها الأستاذ الإمام هناك من أن ( أم ) للاستفهام المجرد أو للمعادلة أنه - تعالى - يقول للمؤمنين بعد ذلك التنبيه والإرشاد لسنته وحكمه فيما حصل المتضمن لللوم والعتاب في مثل : إن كنتم مؤمنين وقوله : إن يمسسكم قرح إلخ . هل جريتم على تلك السنن ؟ هل تدبرتم تلك الحكم ؟ أم حسبتم كما يحسب أهل الغرور أن تدخلوا الجنة وأنتم إلى الآن لم تقوموا بالجهاد في سبيله حق القيام ولم تتمكن صفة الصبر من نفوسكم تمام التمكن ! والجنة إنما تنال بهما ، ولا سبيل إلى دخولها بدونهما . لو قمتم بذلك لعلمه - تعالى - منكم وجازاكم عليه بالنصر والظفر في غزوتكم هذه ، وكان ذلك آية على أنه سيجازيكم بالجنة في الآخرة ، وهذا المختار في معنى ( أم ) هو ما جرى عليه أبو مسلم الأصفهاني ، فقد قال الإمام الرازي : " قال أبو مسلم في ( أم حسبتم ) إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد ، وهو كقوله : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [ 29 : 1 ، 2 ] وافتتح الكلام بذكر ( أم ) التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه ، يقولون : أزيدا ضربت أم عمرا ؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما . قال : وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا ، فلما قال : ولا تهنوا ولا تحزنوا فكأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر ؟ انتهى المراد منه " .

                          وقد جرينا في هذا على أن نفي العلم هنا بمعنى نفي المعلوم ، كنفي اللازم وإرادة الملزوم وهو أحد الوجوه التي بيناها من قرب في تفسير : وليعلم الله الذين آمنوا وهو الذي جرى عليه الكشاف هنا وقال : " هو بمعنى لما تجاهدوا ; لأن العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه ; لأنه منتف بانتفائه . يقول الرجل : ما علم الله في فلان خيرا ، يريد ما فيه خير حتى يعلمه . و لما بمعنى " لم " إلا أن فيها ضربا من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما [ ص: 128 ] مضى وعلى توقعه فيما يستقبل . وتقول : وعدني أن يفعل ولما يفعل . تريد ولم يفعل وأنا أتوقع فعله " اهـ . وقد اعترضه من لم يفهمه حق الفهم ، وقد تقدم أن النكتة في إيثار ذكر العلم وإرادة المعلوم هي الإشعار بأن العلم إنما يكون علما صحيحا بظهور متعلقه بالفعل ، وهاهنا نكتة أخرى في البال وهي أن التعبير عن نفي ذلك بنفي علم الله به عبارة عن دعوى مقرونة بالدليل والبرهان ، كأنه قال : إن كلا من الجهاد والصبر اللذين هما وسيلة إلى دخول الجنة لما يقع منكم ، أي لم يقع إلى الآن من مجموعكم أو أكثركم بحيث صار يعد من شأن الأمة ، فلا ينافي ذلك وقوعه من بعض الأفراد الذين ثبتوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يخالفوا ولم ينهزموا ، إذ لو وقع لعلمه الله - تعالى - الذي لا يخفى عليه شيء ، ولكنه لما يعلمه فهو لم يتحقق قطعا ، ويؤيد تفسير الآية على هذا الوجه قوله - تعالى - في آية البقرة : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء [ 2 : 214 ] إلخ .

                          أي وإلى الآن لم تصلوا إلى حالهم ولم يصبكم مثل ما أصابهم ، وقد كانت حالهم تلك مثلا في الشدة ، ووجه التأييد أن المنفي هناك هو العمل والحال التي يستحقون بها الجنة .

                          ثم إن يوافق أحد الوجوه التي تقدمت في تفسير قوله : وليعلم الله الذين آمنوا من حيث إن المراد بالذوات وصفها ، فالمعنى هناك وليعلم الله إيمان الذين آمنوا - وهنا - ولما يعلم الله جهاد الذين جاهدوا وصبر الصابرين ، أي واقعين ثابتين ، ويصح أيضا أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز - كما تقدم هناك في وجه آخر - ويكون المعنى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة جميعا ولما يميز الله المجاهدين منكم والصابرين من غيرهم .

                          والجهاد هنا أعم من الحرب للدفاع عن الدين وأهله وإعلاء كلمته ، قال الأستاذ الإمام : ربما يقول قائل : إن الآية تفيد أن من لم يجاهد ويصبر لا يدخل الجنة ، مع أن الجهاد فرض كفاية . ونقول : نعم ، إنه لا يدخل الجنة من لم يجاهد في سبيل الحق ، ولكن الجهاد في الكتاب والسنة يستعملان بمعناهما اللغوي - وهو احتمال المشقة في مكافحة الشدائد - ومنه جهاد النفس الذي روي عن السلف التعبير عنه بالجهاد الأكبر ، وذكر من أمثلة ذلك مجاهدة الإنسان لشهواته لا سيما في سن الشباب ، وجهاده بماله ، وما يبتلى به المؤمن من مدافعة الباطل ونصرة الحق . وقال : إن لله في كل نعمة عليك وللناس عليك حقا ، وأداء هذه الحقوق يشق على النفس فلا بد من جهادها ليسهل عليها أداؤها ، وربما يفضل بعض جهاد النفس جهاد الأعداء في الحرب ، فإن الإنسان إذا أراد أن يثبت فكرة صالحة في الناس أو يدعوهم إلى خيرهم من إقامة سنة أو مقاومة بدعة أو النهوض بمصلحة فإنه يجد أمامه من الناس من يقاومه ويؤذيه إيذاء قلما يصبر عليه أحد . وناهيك بالتصدي لإصلاح عقائد العامة وعاداتهم ، وما الخاصة في ضلالهم إلا أصعب مراسا من العامة .

                          [ ص: 129 ] ومن مباحث اللفظ في الآية ما تقدم بيانه من معنى أم ولما ، ومنها أن قوله : ويعلم منصوب بإضمار " أن " على أن الواو للجمع ، كقولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا يكن أكل السمك وشرب اللبن معا ، فالتقدير في الآية على هذا : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجمع بين الجهاد والصبر .

                          بعد ما بين - تعالى - للمؤمنين أن الفوز والظفر في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة لا يكونان بالأماني والغرور ، ولا ينالان بالمحاباة والكيل الجزاف ، بل بالجهاد ومكافحة الأيام ومصابرة الشدائد والأهوال ، واتباع سنن الله في هذا العالم - وبعد ما بين لهم أن دعوى الإيمان ودعوى الجهاد والصبر لا يترتب عليهما الجزاء بالنصر ودخول الجنة ، وإنما يترتب ذلك على تحققهما بحسب علم الله المطابق للواقع لا بحسب ظن الناس وشعورهم - بعد هذا وذاك أرشدهم إلى أمر واقع يظهر لهم به تأويل قوله - تعالى - : وليعلم الله الذين آمنوا وقوله : ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم إلخ . وطريق الجمع بينه وبين شعورهم واعتقادهم قبل ذلك أنهم لم يقصروا في الجهاد والصبر فيتعلمون كيف يحاسبون أنفسهم ولا يغترون بشعورهم وخواطرهم فقال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية