الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الإثبات والتأكيد بإن وإلا

                          262- ومما جاء فيه الإثبات بإن وإلا على هذا الحد قوله عز وجل : « وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين » [ سورة يس : 69 ] وقوله : « وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى » [ سورة النجم : 3، 4 ] . أفلا ترى أن الإثبات في الآيتين جميعا تأكيد وتثبيت لنفي ما نفي ؟ فإثبات ما علمه [ ص: 231 ] النبي صلى الله عليه وسلم وأوحي إليه ذكرا وقرآنا، تأكيد وتثبيت لنفي أن يكون قد علم الشعر . وكذلك إثبات ما يتلوه عليهم وحيا من الله تعالى، تأكيد وتقرير لنفي أن يكون نطق به عن هوى .

                          263- واعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: " إنه خفي غامض، ودقيق صعب " إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب . وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف : " إن الكلام قد استؤنف وقطع عما قبله " لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك . ولقد غفلوا غفلة شديدة .

                          الجملة يظهر فيها وجوب العطف ثم يترك العطف لعارض

                          264- ومما هو أصل في هذا الباب أنك قد ترى الجملة وحالها مع التي قبلها حال ما يعطف ويقرن إلى ما قبله، ثم تراها قد وجب فيها ترك العطف لأمر عرض فيها صارت به أجنبية مما قبلها.

                          مثال ذلك قوله تعالى : « الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون » [ سورة البقرة : 15 ] الظاهر كما لا يخفى يقتضي أن يعطف على ما قبله من قوله : " إنما نحن مستهزئون " [ سورة البقرة : 14 ] وذلك أنه ليس بأجنبي منه، بل هو نظير ما جاء معطوفا من قوله تعالى : " يخادعون الله وهو خادعهم " [ سورة النساء : 142 ] وقوله « ومكروا ومكر الله » [ سورة آل عمران : 54 ] . وما أشبه ذلك مما يرد فيه العجز على الصدر ، ثم إنك تجده قد جاء غير معطوف، وذلك لأمر أوجب أن [ ص: 232 ] لا يعطف، وهو أن قوله : « إنما نحن مستهزئون » حكاية عنهم أنهم قالوا وليس بخبر من الله تعالى - وقوله تعالى : « الله يستهزئ بهم » خبر من الله تعالى أنه يجازيهم على كفرهم واستهزائهم . وإذا كان كذلك كان العطف ممتنعا لاستحالة أن يكون الذي هو خبر من الله تعالى معطوفا على ما هو حكاية عنهم ، ولإيجاب ذلك أن يخرج من كونه خبرا من الله تعالى إلى كونه حكاية عنهم، وإلى أن يكونوا قد شهدوا على أنفسهم بأنهم مؤاخذون، وأن الله تعالى معاقبهم عليه .

                          وليس كذلك الحال في قوله تعالى : « يخادعون الله وهو خادعهم » . « ومكروا ومكر الله » . لأن الأول من الكلامين فيهما كالثاني في أنه خبر من الله تعالى وليس بحكاية . وهذا هو العلة في قوله تعالى : « وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون » [ سورة البقرة : 11، 12 ] . إنما جاء " إنهم هم المفسدون " مستأنفا مفتتحا " بألا " لأنه خبر من الله تعالى بأنهم كذلك والذي قبله من قوله : « إنما نحن مصلحون » حكاية عنهم فلو عطف للزم عليه مثل الذي قدمت ذكره من الدخول في الحكاية، ولصار خبرا من اليهود ووصفا منهم لأنفسهم بأنهم مفسدون . ولصار كأنه قيل : قالوا " إنما نحن مصلحون، وقالوا إنهم المفسدون " . وذلك ما لا يشك في فساده .

                          وكذلك قوله تعالى : « وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون » [ سورة البقرة : 13 ] . ولو [ ص: 233 ] عطف « إنهم هم السفهاء » على ما قبله لكان يكون قد أدخل في الحكاية، ولصار حديثا منهم عن أنفسهم بأنهم هم السفهاء، من بعد أن زعموا أنهم إنما تركوا أن يؤمنوا لئلا يكونوا من السفهاء .

                          لا يعطف الخبر على الاستفهام

                          265- على أن في هذا أمرا آخر، وهو أن قوله : " أنؤمن " استفهام لا يعطف الخبر على الاستفهام.

                          فإن قلت : هل كان يجوز أن يعطف قوله تعالى : « الله يستهزئ بهم » على " قالوا " من قوله : " قالوا إنا معكم " لا على ما بعده وكذلك كان يفعل في " إنهم هم المفسدون " و « إنهم هم السفهاء » . وكان يكون نظير قوله تعالى : « وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر » [ سورة الأنعام : 8 ] وذلك أن قوله : « ولو أنزلنا ملكا » معطوف من غير شك على " قالوا " دون ما بعده؟

                          قيل: إن حكم العطف على " قالوا " فيما نحن فيه، مخالف لحكمه في الآية التي ذكرت، وذلك أن " قالوا " ها هنا جواب شرط . فلو عطف قوله : " الله يستهزئ بهم " عليه للزم إدخاله في حكمه من كونه جوابا، وذلك لا يصح .

                          بيان العطف على جواب الشرط

                          وذاك أنه متى عطف على جواب الشرط شيء بالواو كان ذلك على ضربين :

                          أحدهما : أن يكونا شيئين يتصور وجود كل واحد منهما دون الآخر ومثاله قولك : " إن تأتني أكرمك أعطك وأكسك " . والثاني : أن يكون [ ص: 234 ] المعطوف شيئا لا يكون حتى يكون المعطوف عليه . ويكون الشرط لذلك سببا فيه بوساطة كونه سببا للأول، ومثاله قولك : " إذا رجع الأمير إلى الدار استأذنته وخرجت " فالخروج لا يكون حتى يكون الاستئذان، وقد صار الرجوع سببا في الخروج من أجل كونه سببا في الاستئذان . فيكون المعنى في مثل هذا على كلامين نحو : " إذا رجع الأمير استأذنت وإذا استأذنت خرجت " .

                          وإذ قد عرفت ذلك، فإنه لو عطف قوله تعالى : " الله يستهزئ بهم " على " قالوا " كما زعمت، كان الذي يتصور فيه أن يكون من هذا الضرب الثاني، وأن يكون المعنى « وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون » . فإذا قالوا ذلك استهزأ الله بهم ومدهم في طغيانهم يعمهون .

                          وهذا وإن كان يرى أنه يستقيم، فليس هو بمستقيم، وذلك أن الجزاء إنما هو على نفس الاستهزاء وفعلهم له وإرادتهم إياه في قولهم: " آمنا " لا على أنهم حدثوا عن أنفسهم بأنهم مستهزئون والعطف على " قالوا " يقتضي أن يكون الجزاء على حديثهم عن أنفسهم بالاستهزاء، لا عليه نفسه .

                          ويبين ما ذكرناه من أن الجزاء ينبغي أن يكون على قصدهم الاستهزاء وفعلهم له، لا على حديثهم عن أنفسهم بأنا مستهزئون أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم : " إنما نحن مستهزئون " : وهم يريدون بذلك دفعهم عن أنفسهم بهذا الكلام، وأن يسلموا من شرهم وأن يوهموهم أنهم منهم وإن [ ص: 235 ] لم يكونوا كذلك لكان لا يكون عليهم مؤاخذة فيما قالوه، من حيث كانت المؤاخذة تكون على اعتقاد الاستهزاء والخديعة في إظهار الإيمان، لا في قول : " إنا استهزأنا " من غير أن يقترن بذلك القول اعتقاد ونية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية