الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إنا جعلنا في أعناقهم جمع عنق بالضم وبضمتين، وهو الجيد، ويقال عنيق كأمير وعنق كصرد.

                                                                                                                                                                                                                                      أغلالا جمع غل بالضم وهو على ما قيل ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، وفي البحر الغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الراغب أنه ما يقيد به فتجعل الأعضاء وسطه، وأصله من الغلل تدرع الشيء وتوسطه، ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر، وقد يقال له الغيل، وكأن في الكلام عليه قلبا أي جعلنا أعناقهم في أغلال كما تقول جعلت الخاتم في إصبعي أي جعلت إصبعي في الخاتم، وجوز أن يكون على حد ولأصلبنكم في جذوع النخل [طه: 71] والتنوين للتعظيم والتهويل أي أغلالا عظيمة هائلة، وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة مما يؤيد ذلكفهي أي الأغلال كما هو الظاهر إلى الأذقان جمع ذقن بالتحريك مجتمع اللحيين من أسفلهما، وأل للعهد أو عوض عن المضاف إليه، والظرف متعلق بكون خاص خبر هي، أي فهي واصلة أو منتهية إلى أذقانهم، والفاء للتفريع، وقيل: لمجرد التعقيب بناء على عدم حمل التنوين على التعظيم والتهويل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: فهم مقمحون نتيجة فهي إلى الأذقان فالفاء تفريعية أيضا، والمقمح على ما في النهاية الذي يرفع رأسه ويغض بصره وكأنه أراد المجهول بحيث يرفع الخ. وقال أبو عبيدة : يقال قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب، والجمع قماح، ومنه قول بشر يصف سفينة أخذهم الميد فيها:


                                                                                                                                                                                                                                      ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الليث : هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود، ومنه قيل للكانونين شهرا قماح بضم القاف وكسرها، لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده، وقال الراغب : القمح رفع الرأس لسف الشيء المتخذ من القمح أي البر إذا جرى في السنبل من لدن الإنضاج إلى حين الاكتناز، ثم يقال لرفع الرأس كيفما كان قمح، وقمح البعير رفع رأسه وأقمحت البعير شددت رأسه إلى خلف، وقيل: المقمح الذي يجذب ذقنه حتى يصير في صدره ثم يرفع، وقال مجاهد : القامح الرافع الرأس الواضع يده على فيه، وقال الحسن : هو الطامح ببصره إلى موضع قدمه، وظاهره يقتضي أن يكون هناك نكس للرأس والمعروف في القمح الرفع، ووجه التفريع [ ص: 215 ] أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يطأطئ ويوطئ قذاله فلا يزال مقمحا لا سيما إذا كان الغل عظيما، وقال ابن عطية : إن الإغلال عريضة تبلغ بحروفها الأذقان أي فيحصل القمح، وكلام ابن الأثير يشعر أن القمح لضيق الغل، وإن أريد جعلنا في كل من أعناقهم أغلالا كان أمر القمح أظهر وأظهر، وقال البغوي والطبري والزجاج والطبرسي: ضمير هي للأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى لأن الغل يتضمن العنق واليد، ولذلك سمي جامعة وما يكون في العنق وحده أو في اليد وحدها لا يسمى غلا، فمتى ذكر مع العنق فاليد مرادة أيضا ومتى ذكر مع اليد كما في قراءة ابن عباس «في أيديهم أغلالا» وفي قراءة ابن مسعود «في أيمانهم أغلالا» فالعنق مراد أيضا، وهذا ضرب من الإيجاز والاختصار، ونظير ذلك قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      وما أدري إذا يممت أرضا     أريد الخير أيهما يليني


                                                                                                                                                                                                                                      أالخير الذي أنا أبتغيه     أم الشر الذي لا يأتليني



                                                                                                                                                                                                                                      حيث ذكر الخير وحده وقال أيهما أي الخير والشر، وقد علم أن الخير والشر يعرضان للإنسان، واختار الزمخشري ما تقدم ثم قال: والدليل عليه قوله تعالى: فهم مقمحون ألا ترى كيف جعل الإقماح نتيجة فهي إلى الأذقان ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف، وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج اه.

                                                                                                                                                                                                                                      وصاحب الانتصاف أراد الانتصار للجماعة فقال: يحتمل أن يكون الفاء في فهم مقمحون للتعقيب كسابقه أو للتسبب فإن ضغط اليد مع العنق يوجب الإقماح لأن اليد تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن رافعة لها، ولأن اليد إذا كانت مطلقة كانت راحة للمغلول فربما يتحيل بها على فكاك الغل فيكون منبها على انسداد باب الحيلة اه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال صاحب الكشف: والجواب أنه لا فخامة للتعقيب المجرد، ثم إن ما ذكره الزمخشري وقد أشرنا إليه نحن فيما سبق مستقل في حصول الإقماح فأين التعقيب، وبه خرج الجواب عن التسبب، وقوله: ولأن اليد إلخ لا يستقل جوابا دون الأولين اه، وعلى العلات رجوع الضمير إلى الإغلال هو الحري بالاعتبار، وبلاغة الكتاب الكريم تقتضيه ولا تكاد تلتفت إلى غيره.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية