الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن باع عبدا على أنه خباز أو كاتب وكان بخلافه فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ترك ) ; لأن هذا وصف مرغوب فيه [ ص: 333 ] فيستحق في العقد بالشرط ، ثم فواته يوجب التخيير ; لأنه ما رضي به دونه ، وهذا يرجع إلى اختلاف النوع لقلة التفاوت في الأغراض ، فلا يفسد العقد بعدمه بمنزلة وصف الذكورة والأنوثة في الحيوانات وصار كفوات [ ص: 334 ] وصف السلامة ، وإذا أخذه أخذه بجميع الثمن ; لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن لكونها تابعة في العقد على ما عرف .

التالي السابق


( قوله ومن باع عبدا على أنه خباز أو كاتب ) أي حرفته ذلك ( فكان بخلاف ذلك ، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن وإن شاء تركه ) ولو مات هذا المشتري انتقل الخيار إلى ورثته إجماعا ; لأنه في ضمن ملك العين ، وهذا الشرط حاصله شرط وصف مرغوب فيه في البيع ، ولو كان موجودا فيه دخل في العقد وكان من مقتضياته ، فكان شرطه إذا لم يكن فيه غرر صحيحا ، والأصل في اشتراط الأوصاف أن ما كان وصفا لا غرر فيه فهو جائز ، وما فيه غرر [ ص: 333 ] لا يجوز إلا أن يكون اشتراطه بمعنى البراءة من وجوده ، وهو ما ليس مرغوبا فيه ، فعلى هذا يتفرع ما لو باع ناقة أو شاة على أنها حامل أو تحلب كذا فالبيع فاسد عندنا خلافا للشافعي على الأصح عنده ; لأنه شرط زيادة مجهولة لعدم العلم بها ، حتى لو شرط أنها حلوب جاز ، كما إذا شرط في الفرس أنه هملاج وفي الكلب أنه صائد حيث يصح ، ومنه شرط كونه ذكرا أو أنثى وشرط كون الثمن مكفولا به .

أما لو اشترى جارية على أنها حامل فاختلف المشايخ فيه . قيل لا يجوز كالناقة والشاة ، وقيل يجوز ; لأن الحبل في الجواري عيب بخلاف البهائم فكان ذكره للبراءة عن هذا العيب ، وقيل إن اشتراها ليتخذها ظئرا فشرط أنها حامل يعني ذكر غرضه ذلك للبائع فالبيع فاسد ; لأنه شرط زيادة مجهولة في وجودها غرر فكانت كالناقة ، وإن لم يرد ذلك جاز حملا لقصد البراءة من عيب الحبل ومنه لو اشتراه على أنه معيب فوجده سليما صح ، وكان له . هذا ومذهب الحسن عن أبي حنيفة في شرط الحمل في البقر والجارية أنه يجوز .

وروى ابن سماعة عن محمد في اشتراط أنها حلوبة لا يجوز ; لأن المشروط هنا أصل من وجه وهو اللبن ، قال محمد في مسألتنا : فإن قبضه المشتري ووجده كاتبا أو خبازا على أدنى ما ينطلق عليه الاسم لا يكون له حق الرد ، ومعناه : أن يوجد منه أدنى ما ينطلق عليه اسم الكاتب والخباز : أعني الاسم الذي يشعر بالحرفة ، فإن فعل من ذلك ما ليس كذلك كان له حق الرد بأن يكتب شيئا يسيرا ناقصا في الوضع أو يخبز قدر ما يدفع عنه الهلاك بأكله ، وإذا لم يجده كما ذكر وامتنع الرد بسبب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصته من الثمن بأن يقوم العبد كاتبا وغير كاتب فيرجع بالتفاوت . وعن أبي حنيفة لا يرجع بشيء ; لأن ثبوت الخيار للمشتري بالشرط لا بالعقد ، وتعذر الرد في خيار الشرط لا يوجب الرجوع على البائع فكذا هذا ، والصحيح ما في ظاهر [ ص: 334 ] الرواية ، وبه قال الشافعي ; لأن البائع عجز عن تسليمه وصف السلامة كما في العيب .

ولو اختلف المشتري والبائع بعد مدة فقال المشتري : لم أجده كاتبا وقال البائع سلمته إليك كاتبا ولكنه نسي عندك والمدة تحتمل أنه ينسى في مثلها فالقول للمشتري . والأصل في هذا أن القول لمن تمسك بالأصل وأن العدم في الصفات العارضة أصل والوجود في الصفات الأصلية ، وشهادة النساء بانفرادهن فيما لا يطلع عليه الرجال حجة إذا تأيدت بمؤيد ، وإن لم تتأيد تعتبر في ثبوت توجه الخصومة لا في إلزام الخصم . إذا عرف هذا ، فإذا اختلفا قبل القبض أو بعده فقال المشتري : ليس بهذا الوصف وقال البائع : هو بهذا الوصف للحال يؤمر بالخبز والكتابة ، فإن فعل ما ينطلق عليه الاسم على ما ذكرنا لزم المشتري ولا يرد ولا يعتبر قول العبد في ذلك ، وإن قال البائع : سلمته بها ونسي عندك والمدة تحتمل ذلك والمشتري ينكر ذلك فالقول قول المشتري ويرده ; لأن الأصل عدم هذه الصفة ، وإن لم يكن قبضه لم يجبر على قبضه ودفع الثمن حتى تعرف هذه الصفة .

ولو اشترى جارية على أنها بكر ثم اختلفا قبل القبض أو بعده فقال البائع : بكر للحال وقال المشتري ثيب فإن القاضي يريها النساء ، فإن قلن بكر لزم المشتري بلا يمين البائع ; لأن شهادتهن تأيدت هنا بمؤيد ; لأن الأصل البكارة ، وإن قلن ثيب لم يثبت حق الفسخ بشهادتهن ; لأن الفسخ حق قوي وشهادتهن حجة ضعيفة لم تتأيد بمؤيد ، لكن يثبت حق الخصومة لتتوجه اليمين على البائع ، إذ لا بد للمشتري من الدعوى والخصومة ، والخصومة حق ضعيف ; لأنها ليست بمقصودة لذاتها فجاز أن تثبت بشهادتهن ، فيحلف البائع بالله لقد سلمتها بحكم البيع وهي بكر ، فإن لم يكن قبض يحلف بالله لقد بعتها وهي بكر ، فإن نكل ردت عليه ، وإن حلف لزم المشتري وروي عن أبي يوسف ومحمد في رواية أنها ترد بشهادتهن قبل القبض بلا يمين من البائع ، وإن لم يكن عند القاضي من النساء من يثق بهن لا يحلف البائع ; لأن العيب لم يثبت للحال فلا يثبت حق الخصومة فلا يتوجه اليمين على البائع فتلزم الجارية على المشتري إلى أن يحضر من النساء من يوثق بهن ، ولو قال : بعتها وسلمتها إليك وهي بكر وزالت بكارتها في يدك فالقول قوله ; لأن الأصل هي البكارة ، ولا يريها القاضي النساء ; لأن البائع مضر بزوال البكارة ، وإنما يقول زالت في يدك . واعلم أنه إذا شرط في البيع ما يجوز اشتراطه فوجده بخلافه فتارة يكون البيع فاسدا وتارة يستمر على الصحة ويثبت للمشتري الخيار ، وتارة يستمر صحيحا ولا خيار للمشتري وهو ما إذا وجده خيرا مما شرطه وضابطه إن كان المبيع من جنس المسمى ففيه الخيار ، والثياب أجناس : أعني الهروي والإسكندري والمروي والكتان والقطن . والذكر مع الأنثى في بني آدم جنسان ، وفي سائر الحيوانات جنس واحد . والضابط فحش التفاوت في الأغراض وعدمه ، فإن اشترى ثوبا على أنه إسكندري فوجده بلديا ، أو هندي فوجده مرويا ، أو كتان فوجده قطنا ، أو أبيض مصبوغ بعصفر فإذا هو بزعفران ، أو دارا على أن بناءها آجر فإذا هو لبن ، أو على أن لا بناء ولا نخل فيها فإذا فيها بناء أو نخل ، أو أرضا على أن جميع أشجارها مثمرة فوجد واحدة غير مثمرة ، أو على أنه عبد فإذا هو جارية ، أو فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج فهو فاسد في جميع ذلك .

ولو اشترى جارية على أنها مولدة الكوفة فإذا هي مولدة بغداد ، أو غلام على أنه تاجر [ ص: 335 ] أو كاتب فإذا هو لا يحسنه أو على أنه فحل فإذا هو خصي أو عكسه أو أنها بغلة فإذا هو بغل أو ناقة فكان جملا أو لحم ماعز فكان لحم ضأن أو على عكسه ونحو ذلك فله الخيار ولو اشترى على أنه بغل فوجده بغلة أو حمار أو بعير فإذا هو أتان أو ناقة أو جارية على أنها رتقاء أو حبلى أو ثيب فإذا هي بخلافه جاز ولا خيار له ; لأنه صفة أفضل من الصفة المشروطة وينبغي في مسألة البعير والناقة أن يكون في العرب وأهل البوادي الذين يطلبون الدر والنسل أما أهل المدن والمكارية فالبعير أفضل ولو باع دارا بما فيها من الجذوع والخشب والأبواب والنخيل فإذا ليس فيها شيء من ذلك لا خيار للمشتري




الخدمات العلمية