الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( المسألة الثامنة ) : في البحث عن ألفاظ يظن بها أنها مرادفة للعلم وهي ثلاثون :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : الإدراك وهو اللقاء والوصول ، يقال : أدرك الغلام وأدركت الثمرة ، قال تعالى : ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) [الشعراء : 61] فالقوة العاقلة إذا وصلت إلى ماهية المعقول وحصلتها كان ذلك إدراكا من هذه الجهة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : الشعور وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعلوم إلى القوة العاقلة وكأنه إدراك متزلزل ؛ ولهذا يقال في الله تعالى : إنه يشعر بكذا ، كما يقال : إنه يعلم كذا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : التصور إذا حصل وقوف القوة العاقلة على المعنى وأدركه بتمامه فذلك هو التصور ، واعلم أن التصور لفظ مشتق من الصورة ، ولفظ الصورة حيث وضع فإنما وضع للهيئة الجسمانية الحاصلة في الجسم المتشكل إلا أن الناس لما تخيلوا أن حقائق المعلومات تصير حالة في القوة العاقلة كما أن الشكل والهيئة يحلان في المادة الجسمانية أطلقوا لفظ التصور عليه بهذا التأويل .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : الحفظ فإذا حصلت الصورة في العقل وتأكدت واستحكمت ، وصارت بحيث لو زالت لتمكنت القوة العاقلة من استرجاعها واستعادتها سميت تلك الحالة حفظا ، ولما كان الحفظ مشعرا بالتأكد بعد الضعف لا جرم لا يسمى علم الله حفظا ؛ ولأنه إنما يحتاج إلى الحفظ ما يجوز زواله ولما كان ذلك في علم الله تعالى محالا لا جرم لا يسمى ذلك حفظا .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : التذكر وهو أن الصورة المحفوظة إذا زالت عن القوة العاقلة فإذا حاول الذهن استرجاعها فتلك المحاولة هي التذكر ، واعلم أن للتذكر سرا لا يعلمه إلا الله تعالى وهو أن التذكر صار عبارة عن طلب رجوع تلك الصورة الممحية الزائلة فتلك الصورة إن كانت مشعورا بها فهي حاضرة حاصلة والحاصل لا يمكن تحصيله فلا يمكن حينئذ استرجاعها ، وإن لم تكن مشعورا بها كان الذهن غافلا عنها ، وإذا كان غافلا عنها استحال أن يكون طالبا لاسترجاعها ؛ لأن طلب ما لا يكون متصورا محال فعلى كلا التقديرين يكون التذكر المفسر بطلب الاسترجاع ممتنعا مع أنا نجد من أنفسنا أنا قد نطلبها ونسترجعها وهذه الأسرار إذا توغل العاقل فيها وتأملها عرف أنه لا يعرف كنهها مع أنها من أظهر الأشياء عند الناس فكيف القول في الأشياء التي هي أخفى الأمور وأعضلها على العقول والأذهان .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : الذكر فالصورة الزائلة إذا حاول استرجاعها فإذا عادت وحضرت بعد ذلك الطلب سمي ذلك الوجدان ذكرا ، فإن لم يكن هذا الإدراك مسبوقا بالزوال لم يسم ذلك الإدراك ذكرا ؛ ولهذا قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            الله يعلم أني لست أذكره وكيف أذكره إذ لست أنساه



                                                                                                                                                                                                                                            فجعل حصول النسيان شرطا لحصول الذكر ويوصف القول بأنه ذكر ؛ لأنه سبب حصول المعنى في النفس قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [الحجر : 9] وههنا دقيقة تفسيرية وهي أنه سبحانه وتعالى قال : ( فاذكروني أذكركم ) [البقرة : 152] فهذا الأمر هل يتوجه على العبد حال حصول النسيان أو بعد [ ص: 188 ] زواله ، فإن كان الأول فهو حال النسيان غافل عن الأمر ، وكيف يوجه عليه التكليف مع النسيان ، وإن كان الثاني فهو ذاكر والذكر حاصل وتحصيل الحاصل محال فكيف كلفه به وهو أيضا متوجه على قوله : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [محمد : 19] إلا أن الجواب في قوله فاعلم أن المأمور به إنما هو معرفة للتوحيد وهذا من باب التصديقات فلا يقوى فيه ذلك الإشكال ، وأما الذكر فهو من باب التصورات فيقوى فيه ذلك الإشكال ، وجوابه على الإطلاق أنا نجد من أنفسنا أنه يمكننا التذكر وإذا كان ذلك ممكنا كان ما ذكرته تشكيكا في الضروريات فلا يستحق الجواب .

                                                                                                                                                                                                                                            بقي أن يقال : فكيف يتذكر فنقول : لا نعرف كيف يتذكر لكن علمك بتمكنك في علمك بأن في الجملة يكفيك في الاشتغال بالمجاهدة ، وعجزك عن إدراك تلك الكيفية يكفيك من التذكر ذاك ليس منك ، بل ههنا سر آخر وهو أنك لما عجزت عن إدراك ماهية التذكر والذكر مع أنه صفتك فأنى يمكنك الوقوف على كنه المذكور مع أنه أبعد الأشياء مناسبة منك ، فسبحان من جعل أظهر الأشياء أخفاها ليتوصل العبد به إلى كنه عجزه ونهاية قصوره فحينئذ يطالع شيئا من مبادئ مقادير أسرار كونه ظاهرا باطنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : المعرفة وقد اختلفت الأقوال في تفسير هذه اللفظة فمنهم من قال : المعرفة إدراك الجزئيات ، والعلم إدراك الكليات ، وآخرون قالوا : المعرفة التصور والعلم هو التصديق وهؤلاء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم قالوا : لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة ، فأما تصور حقيقته فأمر فوق الطاقة البشرية ؛ ولأن الشيء ما لم يعرف وجوده فلا تطلب ماهيته فعلى هذا الطريق كل عارف عالم ، وليس كل عالم عارفا ؛ ولذلك فإن الرجل لا يسمى بالعارف إلا إذا توغل في ميادين العلم ، وترقى من مطالعها إلى مقاطها ، ومن مباديها إلى غياتها بحسب الطاقة البشرية ، وفي الحقيقة فإن أحدا من البشر لا يعرف الله تعالى ؛ لأن الاطلاع على كنه هويته وسر ألوهيته محال .

                                                                                                                                                                                                                                            وآخرون قالوا : من أدرك شيئا وانحفظ أثره في نفسه ، ثم أدرك ذلك الشيء ثانيا ، وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانيا هو الذي أدركه أولا فهذا هو المعرفة فيقال : عرفت هذا الرجل وهو فلان الذي كنت رأيته وقت كذا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم في الناس من يقول بقدم الأرواح ومنهم من يقول بتقدمها على الأبدان ويقول إنها هي الذر المستخرج من صلب آدم عليه السلام ، وإنها أقرت بالإلهية واعترفت بالربوبية إلا أنها لظلمة العلاقة البدنية نسيت مولاها ، فإذا عادت إلى نفسها متخلصة من ظلمة البدن وهاوية الجسم عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة به فلا جرم سمي هذا الإدراك عرفانا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب ، والإفهام هو اتصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع .

                                                                                                                                                                                                                                            وتاسعها : الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه يقال : فقهت كلامك أي وقفت على غرضك من هذا الخطاب ، ثم إن كفار قريش لما كانوا أرباب الشبهات والشهوات فما كانوا يقفون على ما في تكاليف الله تعالى من المنافع العظيمة لا جرم قال تعالى : ( لا يكادون يفقهون قولا ) [الكهف : 93] أي لا يقفون على المقصود الأصلي والغرض الحقيقي .

                                                                                                                                                                                                                                            وعاشرها : العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها ، فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع صار علمك بما في الشيء من النفع داعيا لك إلى الفعل وعلمك بما فيه من الضرر داعيا لك إلى الترك فصار ذلك العلم مانعا من الفعل مرة ومن الترك أخرى فيجري ذلك العلم مجرى عقال [ ص: 189 ] الناقة ؛ ولهذا لما سئل بعض الصالحين عن العقل ، قال : هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين ، ولما سئل عن العاقل قال : العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه ، فهذا هو القدر اللائق بهذا المكان ، والاستقصاء فيه يجيء في موضع آخر إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الحادي عشر : الدراية وهي المعرفة بضرب من الحيل وهو تقديم المقدمات واستعمال الروية وأصله من : دريت الصيد ، والدرية لما يتعلم عليه الطعن ، والمدرى يقال لما يصلح به الشعر وهذا لا يصح إطلاقه على الله تعالى لامتناع الفكر والحيل عليه تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني عشر : الحكمة : وهي اسم لكل علم حسن ، وعمل صالح وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري ، وفي العمل أكثر استعمالا منه في العلم ، ومنها يقال : أحكم العمل إحكاما إذا أتقنه ، وحكم بكذا حكما ، والحكمة من الله تعالى خلق ما فيه منفعة العباد ومصلحتهم في الحال وفي المآل ، ومن العباد أيضا كذلك ، ثم قد حدت الحكمة بألفاظ مختلفة فقيل : هي معرفة الأشياء بحقائقها ، وهذا إشارة إلى أن إدراك الجزئيات لا كمال فيه ؛ لأنها إدراكات متغيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            فأما إدراك الماهية ، فإنه باق مصون عن التغير والتبدل ، وقيل هي الإتيان بالفعل الذي عاقبته محمودة ، وقيل : هي الاقتداء بالخالق سبحانه وتعالى في السياسة بقدر الطاقة البشرية ، وذلك بأن يجتهد بأن ينزه علمه عن الجهل وفعله عن الجور ، وجوده عن البخل وحلمه عن السفه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث عشر : علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قالوا : إن اليقين لا يحصل إلا إذا اعتقد أن الشيء كذا وأنه يمتنع كون الأمر بخلاف معتقده إذا كان لذلك الاعتقاد موجب هو إما بديهية الفطرة ، وإما نظر العقل .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية