الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              وأما الضرب الثاني - وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع - فثلاثة أنواع :

              أحدها : المسمى بتنقيح المناط ، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في [ ص: 20 ] الحكم مذكورا مع غيره في النص; فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى ، كما جاء في حديث الأعرابي الذي جاء ينتف شعره ويضرب صدره .

              وقد قسمه الغزالي إلى أقسام ذكرها في " شفاء الغليل " ، وهو مبسوط [ ص: 21 ] في كتب الأصول ، قالوا : وهو خارج عن باب القياس ، ولذلك قال به أبو حنيفة مع إنكاره القياس في الكفارات ، وإنما هو راجع إلى نوع من تأويل الظواهر .

              والثاني : المسمى بتخريج المناط ، وهو راجع إلى أن النص الدال على [ ص: 22 ] الحكم لم يتعرض للمناط; فكأنه أخرج بالبحث ، وهو الاجتهاد القياسي ، وهو معلوم .

              والثالث : هو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر; لأنه ضربان :

              [ ص: 23 ] أحدهما : ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص; كتعيين نوع المثل في جزاء الصيد ، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات ، وما أشبه ذلك ، وقد تقدم التنبيه عليه .

              والضرب الثاني : ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه; فكأن تحقيق المناط على قسمين :

              - تحقيق عام ، وهو ما ذكر .

              - وتحقيق خاص من ذلك العام .

              وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما ، فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلا ووجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول ، من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة ، وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية ، والأمور الإباحية ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة ، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص ، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة; فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر .

              أما الثاني - وهو النظر الخاص - فأعلى من هذا وأدق ، وهو في الحقيقة [ ص: 24 ] ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ الأنفال : 29 ] وقد يعبر عنه بالحكمة ، ويشير إليها قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [ البقرة : 269 ] قال مالك : من شأن ابن آدم ألا يعلم ثم يعلم ، أما سمعت قول الله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ الأنفال : 29 ] ، وقال أيضا : إن الحكمة مسحة ملك على قلب العبد ، وقال : الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد ، وقال أيضا : يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله ، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله .

              وقد كره مالك كتابة العلم - يريد ما كان نحو الفتاوى - فسئل ما الذي نصنع ؟ فقال : تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ، ثم لا تحتاجون إلى الكتاب .

              وعلى الجملة; فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ، ومداخل [ ص: 25 ] الهوى والحظوظ العاجلة حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل ، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره .

              ويختص غير المنحتم بوجه آخر ، وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت ، وحال دون حال ، وشخص دون شخص; إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد ، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك; فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة ، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر ، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر ، ويكون بريئا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض; فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها ، وتفاوت إدراكها ، وقوة تحملها للتكاليف ، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها ، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها; فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها ، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف; فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق ، لكن مما ثبت عمومه في التحقيق الأول العام ، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأولي ، أو يضم قيدا أو قيودا لما ثبت له في الأول بعض القيود .

              [ ص: 26 ] هذا معنى تحقيق المناط هنا .

              وبقي الدليل على صحة هذا الاجتهاد; فإن ما سواه قد تكفل الأصوليون ببيان الدلالة عليه ، وهو داخل تحت عموم تحقيق المناط; فيكون مندرجا تحت مطلق الدلالة عليه ، ولكن إن تشوف أحد إلى خصوص الدلالة عليه فالأدلة عليه كثيرة نذكر منها ما تيسر بحول الله :

              فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال ، وخير الأعمال ، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال; فأجاب بأجوبة مختلفة ، كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفصيل; ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : " إيمان بالله " قال : ثم ماذا ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " قال : ثم ماذا ؟ قال : " حج مبرور " .

              وسئل عليه الصلاة والسلام : أي الأعمال أفضل ؟ قال : " الصلاة لوقتها " قال : ثم أي ؟ قال : " بر الوالدين " قال : ثم أي ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " .

              [ ص: 27 ] وفي النسائي عن أبي أمامة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : مرني بأمر آخذه عنك ، قال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له .

              وفي الترمذي : سئل أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " .

              وفي الصحيح في قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له . . إلخ ، قال : ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به ، الحديث .

              [ ص: 28 ] وفي النسائي : " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " .

              وفي البزار : أي العبادة أفضل ؟ قال : " دعاء المرء لنفسه " [ ص: 29 ] وفي الترمذي : " ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن " .

              وفي البزار : " يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما ؟ عليك بحسن الخلق ، وطول الصمت; فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما " .

              [ ص: 30 ] وفي مسلم : " أي المسلمين خير ؟ قال : من سلم المسلمون من لسانه ويده .

              وفيه : سئل أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف .

              وفي الصحيح : " وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر " .

              [ ص: 31 ] وفي الترمذي : خيركم من تعلم القرآن وعلمه .

              وفيه : " أفضل العبادة انتظار الفرج " .

              إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق ، ويشعر إشعارا ظاهرا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو إلى حال السائل .

              [ ص: 32 ] وقد دعا عليه السلام لأنس بكثرة المال; فبورك له فيه .

              وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال : قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه .

              وقال لأبي ذر : يا أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله ، وقد قال في الإمارة والحكم : إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الحديث [ ص: 33 ] وقال : أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح .

              وفي " أحكام إسماعيل بن إسحاق " عن ابن سيرين ; قال : كان أبو بكر يخافت ، وكان عمر يجهر - يعني في الصلاة - فقيل لأبي بكر : كيف تفعل ؟ قال : أناجي ربي وأتضرع إليه ، وقيل لعمر : كيف تفعل ؟ قال : أوقظ الوسنان ، وأخشأ الشيطان ، وأرضي الرحمن ، فقيل لأبي بكر : ارفع شيئا ، وقيل لعمر : اخفض شيئا ، وفسر بأنه عليه الصلاة والسلام قصد إخراج كل واحد منهما [ ص: 34 ] عن اختياره وإن كان قصده صحيحا .

              وفي الصحيح : أن ناسا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ، قال : " وقد وجدتموه ؟ " قالوا : نعم ، قال : " ذلك صريح الإيمان " .

              وفي حديث آخر : " من وجد من ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله " وعن ابن عباس في مثله قال : " إذا وجدت شيئا من ذلك فقل : هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [ الحديد : 3 ] فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام بأجوبة مختلفة ، وأجاب ابن عباس بأمر آخر ، والعارض من نوع واحد .

              وفي الصحيح : إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه; مخافة أن يكبه الله في النار .

              [ ص: 35 ] وآثر عليه الصلاة والسلام في بعض الغنائم قوما ، ووكل قوما إلى إيمانهم لعلمه بالفريقين ، وقبل عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ماله كله ، وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال : " أمسك عليك بعض مالك; فهو خير لك " وجاء آخر بمثل البيضة من الذهب; فردها في وجهه " .

              [ ص: 36 ] وقال علي : " حدثوا الناس بما يفهمون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟ ! " فجعل إلقاء العلم مقيدا; فرب مسألة تصلح لقوم دون قوم ، وقد قالوا في الرباني : إنه الذي يعلم بصغار العلم قبل كباره; فهذا الترتيب من ذلك .

              [ ص: 37 ] وروي عن الحارث بن يعقوب قال : الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن ، وعرف مكيدة الشيطان ، فقوله : وعرف مكيدة الشيطان ، هو النكتة في المسألة .

              وعن أبي رجاء العطاردي قال : " قلت للزبير بن العوام : مالي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة ؟ قال : نبادر الوسواس " هذا مع أن التطويل مستحب ، ولكن جاء ما يعارضه ، ومثله حديث " أفتان أنت يا معاذ ؟ " ولو تتبع هذا النوع لكثر جدا ، ومنه ما جاء عن الصحابة والتابعين وعن الأئمة المتقدمين ، وهو كثير .

              وتحقيق المناط في الأنواع واتفاق الناس عليه في الجملة مما يشهد له كما تقدم ، وقد فرع العلماء عليه; كما قالوا في قوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا الآية [ المائدة : 33 ] [ ص: 38 ] إن الآية تقتضي مطلق التخيير ، ثم رأوا أنه مقيد بالاجتهاد ، فالقتل في موضع ، والصلب في موضع ، والقطع في موضع ، والنفي في موضع ، وكذلك التخيير في الأسارى من المن والفداء .

              وكذلك جاء في الشريعة الأمر بالنكاح وعدوه من السنن ، ولكن قسموه إلى الأحكام الخمسة ، ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظرا نوعيا; فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي ، فالجميع في معنى واحد والاستدلال على الجميع واحد ، ولكن قد يستبعد ببادئ الرأي وبالنظر الأول; حتى يتبين مغزاه ومورده من الشريعة ، وما تقدم وأمثاله كاف مفيد للقطع بصحة هذا الاجتهاد ، وإنما وقع التنبيه عليه; لأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص ، وبالله التوفيق .

              فإن قيل : كيف تصح دعوى التفرقة بين هذا الاجتهاد المستدل عليه وغيره من أنواع الاجتهاد ، مع أنهما في الحكم سواء ؟ لأنه إن كان غير منقطع فغيره كذلك ، إذ لا يخلو أن يراد بكونه غير منقطع أنه لا يصح ارتفاعه بالكلية ، وإن صح إيقاع بعض جزئياته ، أو يراد أنه لا يصح ارتفاعه لا بالكلية ، ولا بالجزئية ، وعلى كل تقدير فسائر أنواع الاجتهاد كذلك .

              أما الأول; فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر ، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة ، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره; فلا [ ص: 39 ] بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها ، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد ، وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم ، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي ، وهو أيضا اتباع للهوى ، وذلك كله فساد ، فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية ، وهو معنى تعطيل التكليف لزوما ، وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق ، فإذا لا بد من الاجتهاد في كل زمان; لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان .

              وأما الثاني فباطل إذ لا يتعطل مطلق التكليف بتعذر الاجتهاد في بعض الجزئيات فيمكن ارتفاعه في هذا النوع الخاص وفي غيره ، فلم يظهر بين الاجتهادين فرق .

              فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن هذا النوع الخاص كلي في كل زمان ، عام في جميع الوقائع أو أكثرها فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه ، وذلك غير صحيح; لأنه إن فرض في زمان ما ارتفعت الشريعة ضربة لازب بخلاف غيره; فإن الوقائع المتجددة التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين ، فيمكن تقليدهم فيه; لأنه معظم الشريعة ، فلا تتعطل الشريعة بتعطل [ ص: 40 ] بعض الجزئيات ، كما لو فرض العجز عن تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر; فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك; فوضح أنهما ليسا سواء ، والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية