الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            سؤال آخر : وهو أنا نقول بموجب الآية فنسلم أن عيسى عليه السلام دون مجموع الملائكة في الفضل فلم قلتم إنه دون كل واحد من الملائكة في الفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            سؤال آخر : لعله تعالى إنما ذكر هذا الخطاب مع أقوام اعتقدوا أن الملك أفضل من البشر فأورد الكلام على حسب معتقدهم كما في قوله ( وهو أهون عليه ) [الروم : 27] [ ص: 204 ] وثامنها : قوله تعالى حكاية عن إبليس ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) [الأعراف : 20] ولو لم يكن متقررا عند آدم وحواء عليهما السلام أن الملك أفضل من البشر لم يقدر إبليس على أن يغرهما بذلك ، ولا كان آدم وحواء عليهما السلام يغتران بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            ولقائل أن يقول : هذا قول إبليس فلا يكون حجة ، ولا يقال : إن آدم اعتقد صحة ذلك وإلا لما اغتر ، واعتقاد آدم حجة ؛ لأنا نقول : لعل آدم عليه السلام أخطأ في ذلك إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء ، أو لأنه ما كان نبيا في ذلك الوقت ، وأيضا هب أنه حجة لكن آدم عليه السلام لم يكن قبل الزلة نبيا فلم يلزم من فضل الملك عليه في ذلك الوقت فضل الملك عليه حال ما صار نبيا ، وأيضا هب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من البشر في بعض الأمور المرغوبة فلم قلت : إنها تدل على فضل الملك على البشر في باب الثواب ؟ وذلك لأنه لا نزاع أن الملك أفضل من البشر في باب القدرة والقوة ، وفي باب الحسن والجمال ، وفي باب الصفاء والنقاء عن الكدورات الحاصلة بسبب التركيبات فإن الملائكة خلقوا من الأنوار ، وآدم مخلوق من التراب فلعل آدم عليه السلام وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلا أنه رغب في أن يكون مساويا لهم في تلك الأمور التي عددناها فكان التغرير حاصلا من هذا الوجه ، وأيضا فقوله ( إلا أن تكونا ملكين ) [الأعراف : 20] يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فحينئذ يصح استدلالكم ، ويحتمل أن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة والخالدين دونكما ، هذا كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون فلانا ويكون المعنى أن المنهي هو فلان دونك ، ولم يرد إلا أن ينقلب فيصير فلانا ، ولما كان غرض إبليس إيقاع الشبهة بهما فمن أوكد الشبهة إيهام أنهما لم ينهيا ، وإنما المنهي غيرهما ، وأيضا فهب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من آدم فلم قلت إنها تدل على أن الملك أفضل من محمد ؟ وذلك لأن المسلمين أجمعوا على أن محمدا أفضل من آدم عليهما السلام ولا يلزم من كون الملك أفضل من المفضول كونه أفضل من الأفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            وتاسعها : قوله تعالى : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ) [الأنعام : 50] ولقائل أن يقول : يحتمل أن يكون المراد ولا أقول لكم إني ملك في كثرة العلوم ، وشدة القدرة والذي يدل على صحة هذا الاحتمال وجوه .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو أن الكفار طالبوه بالأمور العظيمة نحو صعود السماء ونقل الجبال ، وإحضار الأموال العظيمة ، وهذه الأمور لا يمكن تحصيلها إلا بالعلوم الكثيرة والقدرة الشديدة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن قوله ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ) هذا يدل على اعترافه بأنه غير قادر على كل المقدورات ، وقوله ( ولا أعلم الغيب ) يدل على اعترافه بأنه غير عالم بكل المعلومات ثم قوله ( ولا أقول لكم إني ملك ) معناه والله أعلم وكما لا أدعي القدرة على كل المقدورات ، والعلم بكل المعلومات فكذلك لا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علما مثل علومهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قوله ( ولا أقول لكم إني ملك ) لم يرد به نفي الصورة ؛ لأنه لا يفيد الغرض ، وإنما نفى أن يكون له مثل ما لهم من الصفات وهذا يكفي في صدقه أن لا يكون له مثل ما لهم ولا تكون صفاته مساوية لصفاتهم من كل الوجوه ، ولا دلالة فيه على وقوع التفاوت في كل الصفات فإن عدم الاستواء في الكل غير ، وحصول الاختلاف في الكل غير .

                                                                                                                                                                                                                                            وعاشرها : قوله تعالى : ( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) [يوسف : 31] فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد وقوع التشبيه في الصورة والجمال ، قلنا : الأولى أن يكون التشبيه واقعا في السيرة لا في [ ص: 205 ] الصورة لأنه قال : ( إن هذا إلا ملك كريم ) فشبهه بالملك الكريم ، والملك إنما يكون كريما بسيرته المرضية لا بمجرد صورته ، فثبت أن المراد تشبيهه بالملك في نفي دواعي البشر من الشهوة والحرص على طلب المشتهى ، وإثبات ضد ذلك ، وهي حالة الملك وهي غض البصر ، وقمع عن الميل إلى المحرمات ، فدلت هذه الآية على إجماع العقلاء من الرجال والنساء ، والمؤمن والكافر ، على اختصاص الملائكة بدرجة فائقة على درجات البشر .

                                                                                                                                                                                                                                            ولقائل أن يقول : إن قول المرأة ( فذلكن الذي لمتنني فيه ) كالصريح في أن مراد النساء بقولهن ( إن هذا إلا ملك كريم ) [يوسف : 31] تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال لا في السيرة ؛ لأن ظهور عذرها في شدة عشقها ، إنما يحصل بسبب فرط يوسف في الجمال لا بسبب فرط زهده وورعه .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن ذلك لا يناسب شدة عشقها له ، سلمنا أن المراد تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في الإعراض عن المشتهيات ، فلم يجب أن يكون يوسف عليه السلام أقل ثوابا من الملائكة ، وذلك أنه لا نزاع في أن عدم التفات البشر إلى المطاعم والمناكح أقل من عدم التفات الملائكة إلى هذه الأشياء ، لكن لم قلتم : إن ذلك يوجب المزيد في الفضل بمعنى كثرة الثواب ؟ فإن تمسكوا بأن كل من كان أقل معصية وجب أن يكون أفضل ، فقد سبق الكلام عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : ( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) [الإسراء : 70] ومخلوقات الله تعالى إما المكلفون أو من عداهم ، ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم ، أما المكلفون فهم أربعة أنواع الملائكة والإنس والجن والشياطين .

                                                                                                                                                                                                                                            ولا شك أن الإنس أفضل من الجن والشياطين ، فلو كان أفضل من الملك أيضا لزم حينئذ أن يكون البشر أفضل من كل المخلوقات ، وحينئذ لا يبقى لقوله تعالى : ( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) [الإسراء : 70] فائدة ، بل كان ينبغي أن يقال : وفضلناهم على جميع من خلقنا تفضيلا ، ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر ، ولقائل أن يقول : حاصل هذا الكلام تمسك بدليل الخطاب ؛ لأن التصريح بأنه أفضل من كثير من المخلوقات لا يدل على أنه ليس أفضل من الباقي إلا بواسطة دليل الخطاب ، وأيضا فهب أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الثاني أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من المجموع الثاني ، فإنا إذا قدرنا عشرة من العبيد كل واحد منهم يساوي مائة دينار ، وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار ، والتسعة الباقية يساوي كل واحد منهم دينارا .

                                                                                                                                                                                                                                            فالمجموع الأول أفضل من المجموع الثاني ، إلا أنه حصل في المجموع الثاني واحد هو أفضل من كل واحد من آحاد المجموع الأول ، فكذا ههنا وأيضا فقوله ( وفضلناهم ) [الإسراء : 70] يجوز أن يكون المراد وفضلناهم في الكرامة التي ذكرناها في أول الآية ، وهي قوله ( ولقد كرمنا بني آدم ) [الإسراء : 70] ويكون المراد من الكرامة حسن الصورة ومزيد الذكاء ، والقدرة على الأعمال العجيبة ، والمبالغة في النظافة والطهارة ، وإذا كان كذلك فنحن نسلم أن الملك أزيد من البشر في هذه الأمور ولكن لم قلتم إن الملك أكثر ثوابا من البشر ، وأيضا فقوله : ( خلق السماوات بغير عمد ترونها ) [لقمان : 10] لا يقتضي أن يكون هناك عمد غير مرئي ، وكذلك قوله تعالى : ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ) [المؤمنون : 117] يقتضي أن يكون هناك إله آخر له برهان فكذلك ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية