الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب بيع الغرر وحبل الحبلة

                                                                                                                                                                                                        2036 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب بيع الغرر ) بفتح المعجمة وبراءين ( و ) بيع ( حبل الحبلة ) بفتح المهلة والموحدة وقيل : في الأول بسكون الموحدة وغلطه عياض ، وهو مصدر حبلت تحبل حبلا والحبلة جمع حابل مثل : ظلمة وظالم ، وكتبة وكاتب ، والهاء فيه للمبالغة ، وقيل : للإشعار بالأنوثة وقد ندر فيه امرأة حابلة فالهاء فيه للتأنيث ، وقيل : حبلة مصدر يسمى به المحبول ، قال أبو عبيد : لا يقال لشيء من الحيوان حبلت إلا الآدميات إلا ما ورد في هذا الحديث . وأثبته صاحب " المحكم " قولا ، فقال اختلف أهي للإناث عامة أم للآدميات خاصة ، وأنشد في التعميم قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                        أو ذيخة حبلى مجح مقرب



                                                                                                                                                                                                        وفي ذلك تعقب على نقل النووي اتفاق أهل اللغة على التخصيص . ثم إن عطف بيع حبل الحبلة على بيع الغرر من عطف الخاص على العام ، ولم يذكر في الباب بيع الغرر صريحا وكأنه أشار إلى ما أخرجه أحمد من طريق ابن إسحاق حدثني نافع وابن حبان من طريق سليمان التيمي عن نافع عن ابن عمر قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر وقد أخرج مسلم النهي عن بيع الغرر من حديث أبي هريرة وابن ماجه من حديث ابن عباس والطبراني من حديث سهل بن سعد ، ولأحمد من حديث ابن مسعود رفعه : لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر وشراء السمك في الماء نوع من أنواع الغرر ، ويلتحق به الطير في الهواء والمعدوم والمجهول والآبق ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قال النووي : النهي عن بيع الغرر أصل من أصول البيع فيدخل تحته مسائل كثيرة جدا ، ويستثنى من بيع الغرر أمران : أحدهما ما يدخل في المبيع تبعا فلو أفرد لم يصح بيعه ، والثاني ما يتسامح بمثله إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه وتعيينه ، فمن الأول بيع أساس الدار ، والدابة التي في ضرعها اللبن ، والحامل ، ومن الثاني الجبة المحشوة والشرب من السقاء ، قال : وما اختلف العلماء فيه مبني على اختلافهم في كونه حقيرا أو يشق تمييزه أو تعيينه فيكون الغرر فيه كالمعدوم فيصح البيع وبالعكس ، وقال : ومن بيوع الغرر ما اعتاده الناس من الاستجرار من الأسواق بالأوراق مثلا فإنه لا يصح لأن الثمن ليس حاضرا فيكون من المعاطاة ولم توجد صيغة يصح بها العقد ، وروى الطبري عن ابن سيرين بإسناد صحيح قال : لا أعلم ببيع الغرر بأسا . قال ابن بطال : لعله لم يبلغه النهي ، وإلا فكل ما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد لم يصح ، وكذلك إذا كان لا يصح غالبا ، فإن كان يصح غالبا كالثمرة في أول بدو صلاحها أو كان مستمرا تبعا كالحمل مع الحامل جاز لقلة الغرر ، ولعل هذا هو الذي أراده ابن سيرين ، لكن منع من ذلك ما رواه ابن المنذر عنه أنه قال : لا بأس ببيع العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحدا . فهذا يدل على أنه يرى بيع الغرر إن سلم في المال ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 419 ] قوله : ( وكان ) أي : بيع حبل الحبلة ( بيعا يتبايعه أهل الجاهلية . . . إلخ ) كذا وقع هذا التفسير في " الموطأ " متصلا بالحديث ، قال الإسماعيلي وهو مدرج يعني : أن التفسير من كلام نافع ، وكذا ذكر الخطيب في المدرج ، وسيأتي في آخر السلم عن موسى بن إسماعيل التبوذكي عن جويرية التصريح بأن نافعا هو الذي فسره ، لكن لا يلزم من كون نافع فسره لجويرية أن لا يكون ذلك التفسير مما حمله عن مولاه ابن عمر ، فسيأتي في أيام الجاهلية من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع بن عمر قال : " كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة ، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت ، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك " فظاهر هذا السياق أن هذا التفسير من كلام ابن عمر ولهذا جزم ابن عبد البر بأنه من تفسير ابن عمر ، وقد أخرجه مسلم من رواية الليث والترمذي والنسائي من رواية أيوب كلاهما عن نافع بدون التفسير ، وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عمر بدون التفسير أيضا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الجزور ) بفتح الجيم وضم الزاي هو البعير ذكرا كان أو أنثى ، إلا أن لفظه مؤنث تقول : هذه الجزور وإن أردت ذكرا ، فيحتمل أن يكون ذكره في الحديث قيدا فيما كان أهل الجاهلية يفعلونه فلا يتبايعون هذا البيع إلا في الجزور أو لحم الجزور ، ويحتمل أن يكون ذكر على سبيل المثال ، وأما في الحكم فلا فرق بين الجزور وغيرها في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلى أن تنتج ) بضم أوله وفتح ثالثه أي : تلد ولدا والناقة فاعل ، وهذا الفعل وقع في لغة العرب على صيغة الفعل المسند إلى المفعول وهو حرف نادر ، وقوله : " ثم تنتج التي في بطنها " أي : ثم تعيش المولودة حتى تكبر ثم تلد ، وهذا القدر زائد على رواية عبيد الله بن عمر فإنه اقتصر على قوله : " ثم تحمل التي في بطنها " ورواية جويرية أخصر منهما ولفظه : " أن تنتج الناقة ما في بطنها " وبظاهر هذه الرواية قال سعيد بن المسيب فيما رواه عنه مالك ، وقال به مالك والشافعي وجماعة ، وهو أن يبيع بثمن إلى أن يلد ولد الناقة ، وقال بعضهم : أن يبيع بثمن إلى أن تحمل الدابة وتلد ويحمل ولدها ، وبه جزم أبو إسحاق في " التنبيه " فلم يشترط وضع حمل الولد كرواية مالك ، ولم أر من صرح بما اقتضته رواية جويرية وهو الوضع فقط ، وهو في الحكم مثل الذي قبله ، والمنع في الصور الثلاث للجهالة في الأجل ومن حقه على هذا التفسير أن يذكر في السلم ، وقال أبو عبيدة وأبو عبيد وأحمد وإسحاق وابن حبيب المالكي وأكثر أهل اللغة وبه جزم الترمذي : هو بيع ولد نتاج الدابة ، والمنع في هذا من جهة أنه بيع معدوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه فيدخل في بيوع الغرر ، ولذلك صدر البخاري بذكر الغرر في الترجمة لكنه أشار إلى التفسير الأول بإيراد الحديث في كتاب السلم أيضا ورجح الأول لكونه موافقا للحديث وإن كان كلام أهل اللغة موافقا للثاني ، لكن قد روى الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر ما يوافق الثاني ولفظه : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر قال : إن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون ذلك البيع يبتاع الرجل بالشارف حبل الحبلة فنهوا عن ذلك " . وقال ابن التين : محصل الخلاف : هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين؟ وعلى الأول : هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها؟ وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين الأول أو بيع جنين الجنين؟ فصارت أربعة أقوال . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        وحكى صاحب " المحكم " قولا آخر أنه بيع ما في بطون الأنعام ، وهو أيضا من بيوع الغرر ، لكن هذا إنما فسر به سعيد بن المسيب - كما رواه مالك في " الموطأ " - بيع المضامين ، وفسر به [ ص: 420 ] غيره بيع الملاقيح ، واتفقت هذه الأقوال - على اختلافها - على أن المراد بالحبلة جمع حابل أو حابلة من الحيوان ، إلا ما حكاه صاحب " المحكم " وغيره عن ابن كيسان أن المراد بالحبلة الكرمة ، وأن النهي عن بيع حبلها أي : حملها قبل أن تبلغ كما نهى عن بيع ثمر النخلة قبل أن تزهى ، وعلى هذا فالحبلة بإسكان الموحدة وهو خلاف ما ثبتت به الروايات ، لكن حكي في الكرمة فتح الباء ، وادعى السهيلي تفرد ابن كيسان به ، وليس كذلك ، فقد حكاه ابن السكيت في " كتاب الألفاظ " ونقله القرطبي في " المفهم " عن أبي العباس المبرد ، والهاء على هذا للمبالغة وجها واحدا .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية