الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير .

عطف على جملة الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم أعيد المبتدأ فيها للاهتمام بالحكم والتصريح بأصحابه وكان مقتضى الكلام أن يقال : فإن يعودوا لما قالوا فتحرير رقبة ، فيكون عطفا على جملة الخبر من قوله ما هن أمهاتهم .

و " ثم " عاطفة جملة يعودون على جملة يظاهرون ، وهي للتراخي الرتبي تعريضا بالتخطئة لهم بأنهم عادوا إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية بعد أن [ ص: 16 ] انقطع ذلك بالإسلام . ولذلك علق بفعل يعودون ما يدل على قولهم لفظ الظهار .

والعود : الرجوع إلى شيء تركه وفارقه صاحبه . وأصله : الرجوع إلى المكان الذي غادره ، وهو هنا عود مجازي .

ومعنى يعودون لما قالوا يحتمل أنهم يعودون لما نطقوا به من الظهار . وهذا يقتضي أن المظاهر لا يكون مظاهرا إلا إذا صدر منه لفظ الظهار مرة ثانية بعد أولى . وبهذا فسر الفراء . وروي عن علي بن طلحة عن ابن عباس بحيث يكون ما يصدر منه مرة أولى معفوا عنه . غير أن الحديث الصحيح في قضية المجادلة يدفع هذا الظاهر لأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال لأوس بن الصامت : أعتق رقبة كما سيأتي من حديث أبي داود فتعين أن التكفير واجب على المظاهر من أول مرة ينطق فيها بلفظ الظهار .

ويحتمل أن يراد أنهم يريدون العود إلى أزواجهم ، أي : لا يحبون الفراق ويرومون العود إلى المعاشرة . وهذا تأويل اتفق عليه الفقهاء عدا داود الظاهري ، وبكير بن الأشج ، وأبا العالية . وفي الموطأ قال مالك في قول الله عز وجل والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا قال سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع بعد تظاهره على إصابتها وإمساكها فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها فلا كفارة عليه .

وأقوال أبي حنيفة ، والشافعي ، والليث تحوم حول هذا المعنى على اختلاف في التعبير لا نطيل به .

وعليه فقد استعمل فعل يعودون في إرادة العودة كما استعمل فعل مستعمل في معنى إرادة العود والعزم عليه لا على العود بالفعل لأنه لو كان عودا بالفعل لم يكن لاشتراط التكفير قبل المسيس معنى ، فانتظم من هذا معنى : ثم يريدون العود إلى ما حرموه على أنفسهم فعليهم كفارة قبل أن يعودوا إليه على نحو قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم أي : إذا أردتم القيام ، وقوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله .

[ ص: 17 ] وتلك هي قضية سبب النزول لأن المرأة ما جاءت مجادلة إلا لأنها علمت أن زوجها المظاهر منها لم يرد فراقها كما يدل عليه الحديث المروي في ذلك في كتاب أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت : ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشكو إليه ورسول الله يجادلني ويقول : اتقي الله . فإنه ابن عمك ؟ فما برحت حتى نزل القرآن . فقال : يعتق رقبة . قالت : لا يجد . قال : فيصوم شهرين متتابعين . قالت : إنه شيخ كبير ما به من صيام . قال : فليطعم ستين مسكينا . قالت : ما عنده شيء يتصدق به . فأتى ساعتئذ بعرق من تمر ، قلت : يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر . قال : قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك . قال أبو داود في هذا : إنها كفرت عنه من غير أن تستأمره .

والمراد " بما قالوا " ما قالوا بلفظ الظهار وهو ما حرموه على أنفسهم من الاستمتاع المفاد من لفظ : أنت علي كظهر أمي ، لأن : أنت علي . في معنى : قربانك ونحوه علي كمثله من ظهر أمي . ومنه قوله تعالى ونرثه ما يقول ، أي مالا وولدا في قوله تعالى وقال لأوتين مالا وولدا ، وقوله قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم أي : قولكم حتى يأتينا بقربان تأكله النار . ففعل القول في هذا وأمثاله ناصب لمفرد لوقوعه في خلال جملة مقولة ، وإيثار التعبير عن المعنى الذي وقع التحريم له . فلفظ الظهار بالموصول وصلته هذه إيجاز وتنزيه للكلام عن التصريح به . فالمعنى ثم يرومون أن يرجعوا للاستمتاع بأزواجهم بعد أن حرموه على أنفسهم .

وفهم من قوله ثم يعودون لما قالوا أن من لم يرد العود إلى امرأته لا يخلو حاله : فإما أن يريد طلاقها فله أن يوقع عليها طلاقا آخر لأن الله أبطل أن يكون الظهار طلاقا ، وإما أن لا يريد طلاقا ولا عودا . فهذا قد صار ممتنعا من معاشرة زوجه مضرا بها فله حكم الإيلاء الذي في قوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر الآية . وقد كانوا يجعلون الظهار إيلاء كما في قصة سلمة بن صخر البياضي . ثم الزرقي في كتاب أبي داود قال : كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتايع بي - بتحتية في أوله مضمومة ثم مثناة فوقية ثم ألف ثم تحتية ، والظاهر [ ص: 18 ] أنها مكسورة - . والتتايع الوقوع في الشر فالباء في قوله ( بي ) زائدة للتأكيد ) حتى أصبح ، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان . الحديث .

واللام في قوله لما قالوا بمعنى ( إلى ) كقوله تعالى بأن ربك أوحى لها ونظيره قوله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه . وأحسب أن أصل اللام هو التعليل ، وهو أنها في مثل هذه المواضع إن كان الفعل الذي تعلقت به ليس فيه معنى المجيء حملت اللام فيه على معنى التعليل وهو الأصل نحو بأن ربك أوحى لها ، وما يقع فيه حرف ( إلى ) من ذلك مجاز بتنزيل من يفعل الفعل لأجله منزلة من يجيء الجائي إليه ، وإن كان الفعل الذي تعلقت به اللام فيه معنى المجيء مثل فعل العود فإن تعلق اللام به يشير إلى إرادة معنى في ذلك الفعل بتمجز أو تضمين يناسبه حرف التعليل نحو قوله تعالى كل يجري لأجل مسمى ، أي : جريه المستمر لقصده أجلا يبلغه . ومنه قوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه أي : عاودوا فعله ومنه ما في هذه الآية .

وفي الكشاف في قوله تعالى كل يجري لأجل مسمى في سورة الزمر أنه ليس مثل قوله تعالى كل يجري إلى أجل مسمى في سورة لقمان أي : أنه ليس من تعاقب الحرفين ولا يسلك هذه الطريقة إلا ضيق العطن ، ولكن المعنيين أعني الاستعلاء والتخصيص كلاهما ملائم لصحة الغرض لأن قوله " إلى أجل " معناه يبلغه ، وقوله لأجل يريد لإدراك أجل تجعل الجري مختصا بالإدراك اهـ .

فيكون التقدير على هذا الوجه ثم يريدون العود لأجل ما قالوا ، أي : لأجل رغبتهم في أزواجهم ، فيصير متعلق فعل " يعودون " مقدرا يدل عليه الكلام ، أي : يعودون لما تركوه من العصمة ، ويصير الفعل في معنى : يندمون على الفراق .

وتحصل من هذا أن كفارة الظهار شرعت إذا قصد المظاهر الاستمرار على معاشرة زوجه ، تحلة لما قصده من التحريم ، وتأديبا له على هذا القصد الفاسد والقول الشنيع .

وبهذا يكون محمل قوله من قبل أن يتماسا على أنه من قبل أن يمس زوجه [ ص: 19 ] مس استمتاع قبل أن يكفر وهو كناية عن الجماع في اصطلاح القرآن ، كما قال وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن .

ولذلك جعلت الكفارة عتق رقبة لأنه يفتدي بتلك الرقبة رقبة زوجه .

وقد جعلها الله تعالى موعظة بقوله ذلكم توعظون به . واسم الإشارة في قوله ذلكم عائد إلى تحرير رقبة . والوعظ : التذكير بالخير والتحذير من الشر بترغيب أو ترهيب ، أي : فرض الكفارة تنبيه لكم لتتفادوا مسيس المرأة التي طلقت أو تستمروا على مفارقتها مع الرغبة في العود إلى معاشرتها لئلا تعودوا إلى الظهار . ولم يسم الله ذلك كفارة هنا وسماها النبيء - صلى الله عليه وسلم - كفارة كما في حديث سلمة بن صخر البياضي في جامع الترمذي وإنما الكفارة من نوع العقوبة في أحد قولين عن مالك وهو قول الشافعي حكاه عنه ابن العربي في الأحكام .

فالمظاهر ممنوع من الاستمتاع بزوجته المظاهر منها ، أي : ممنوع من علائق الزوجية ، وذلك يقتضي تعطيل العصمة ما لم يكفر لأنه ألزم نفسه ذلك فإن استمتع بها قبل الكفارة كلها فليتب إلى الله وليستغفر وتتعين عليه الكفارة ولا تتعدد الكفارة بسبب الاستمتاع قبل التذكير لأنه سبب واحد فلا يضر تكرر مسببه ، وإنما جعلت الكفارة زجرا ولذلك لم يكن وطء المظاهر امرأته قبل الكفارة زنى . وقد روى أبو داود ، والترمذي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته ثم وقع عليها قبل أن يكفر فأمره النبيء - صلى الله عليه وسلم - بكفارة واحدة ، وهو قول جمهور العلماء . وعن مجاهد ، وعبد الرحمن بن مهدي أن عليه كفارتين .

وتفاصيل أحكام الظهار في صيغته وغير ذلك مفصلة في كتب الفقه .

وقوله والله بما تعملون خبير تذييل لجملة ذلكم توعظون به ، أي : والله عليم بجميع ما تعملونه من هذا التكفير وغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية