الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ويكره الوصال في الصوم ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إياكم والوصال قالوا : إنك تواصل يا رسول الله قال : إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني } وهل هو كراهة تحريم ؟ أو هو كراهة تنزيه ؟ فيه وجهان : ( أحدهما ) أنه كراهة تحريم ; لأن النهي يقتضي التحريم .

                                      ( والثاني ) أنه كراهة تنزيه ; لأنه إنما نهى عنه حتى لا يضعف عن الصوم ، وذلك أمر غير محقق فلم يتعلق به إثم ، فإن واصل لم يبطل صومه ; لأن النهي لا يرجع إلى الصوم فلا يوجب بطلانه .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هريرة رواه البخاري ومسلم ، والوصال بكسر الواو ، ويطعمني بضم الياء ، ويسقيني بضم الياء وفتحها ، والفتح أفصح وأشهر . وقوله : لأنه إنما نهى عنه بضم النون وفتحها . أما حكم الوصال فهو مكروه بلا خلاف عندنا ، وهل هي كراهة تحريم أم تنزيه ؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وهما مشهوران ودليلهما في الكتاب ( أصحهما ) عند أصحابنا وهو ظاهر نص الشافعي كراهة تحريم ; لأن الشافعي رضي الله عنه قال في المختصر : فرق الله تعالى [ ص: 400 ] بين رسوله وبين خلقه في أمور أباحها له ، وحظرها عليهم ، وذكر منها الوصال . وممن صرح به من أصحابنا بتصحيح تحريمه صاحب العدة والرافعي وآخرون . وقطع به جماعة من أصحابنا منهم القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد ، والخطابي في المعالم وسليم الرازي في الكفاية ، وإمام الحرمين في النهاية والبغوي والروياني في الحلية ، والشيخ نصر في كتابه الكافي ، وآخرون كلهم صرحوا بتحريمه من غير خلاف . قال أصحابنا : وحقيقة الوصال المنهي عنه أنه يصوم يومين فصاعدا ولا يتناول في الليل شيئا لا ماء ولا مأكولا ، فإن أكل شيئا يسيرا أو شرب فليس وصالا .

                                      وكذا إن أخر الأكل إلى السحر لمقصود صحيح أو غيره فليس بوصال وممن صرح بأن الوصال ألا يأكل ولا يشرب ، ويزول الوصال بأكل أو شرب - وإن قل - صاحب الحاوي وسليم الرازي والقاضي أبو الطيب وإمام الحرمين والشيخ نصر والمتولي وصاحب العدة وصاحب البيان ، وخلائق لا يحصون من أصحابنا . وأما قول المحاملي في المجموع وأبي علي بن الحسن بن عمر البندنيجي في كتابه الجامع والغزالي في الوسيط والبغوي في التهذيب : الوصال ألا يأكل شيئا في الليل ، وخصوه بالأكل فضعيف بل هو متأول على موافقة الأصحاب ويكون مرادهم لا يأكل ولا يشرب كما قاله الجماهير ، واكتفوا بذكر أحد القرينين كقوله تعالى { سرابيل تقيكم الحر } أي والبرد ، ونظائره معروفة ، وقد بالغ إمام الحرمين فقال في النهاية في بيان ما يزول به الوصال : فقيل : يزول الوصال بقطرة يتعاطاها كل ليلة ، ولا يكفي اعتقاده أن من جن عليه الليل فقد أفطر ، هذا لفظه بحروفه . واعلم أن الجمهور قد أطلقوا في بيان حقيقة الوصال أنه صوم يومين فأكثر من غير أكل ولا شرب في الليل . قال الروياني في الحلية : الوصال أن يصل صوم الليل بصوم النهار قصدا ، فلو ترك الأكل بالليل لا على قصد الوصال والتقرب إلى الله به لم يحرم .

                                      وقال البغوي : العصيان في الوصال لقصده إليه وإلا فالفطر حاصل [ ص: 401 ] بدخول الليل ، كالحائض إذا صلت عصت ، وإن لم يكن لها صلاة ، وهذا الذي قالاه خلاف إطلاق الجمهور وخلاف ما صرح به إمام الحرمين كما سبق قريبا ، وقد قال المحاملي في المجموع : الوصال ترك الأكل بالليل دون نية الفطر ; لأن الفطر يحصل بالليل ، سواء نوى الإفطار أم لا . هذا كلامه . وظاهره مخالف لقول الروياني والبغوي . والله أعلم . فالصواب أن الوصال ترك الأكل والشرب في الليل بين الصومين عمدا بلا عذر .

                                      ( فرع ) اتفق أصحابنا وغيرهم على أن الوصال لا يبطل الصوم سواء حرمناه أو كرهناه ، لما ذكره المصنف أن النهي لا يعود إلى الصوم ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن الوصال من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مكروه في حقنا ، إما كراهة تحريم على الصحيح وإما تنزيه ، ومباح له صلى الله عليه وسلم كذا قاله الشافعي والجمهور . وقال إمام الحرمين : هو قربة في حقه ، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على الفرق بيننا وبينه في ذلك بقوله : { إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني } واختلف أصحابنا في تأويل هذا الحديث على وجهين مشهورين في الحاوي ومنهاج القاضي أبي الطيب والمعالم للخطابي والعدة والبيان وغيرها : ( أحدهما ) وهو الأصح أن معناه أعطي قوة الطاعم الشارب ، وليس المراد الأكل حقيقة إذ لو أكل حقيقة لم يبق وصال ، ولقال : ما أنا مواصل ، ويؤيد هذا التأويل ما سنذكره إن شاء الله تعالى قريبا في فرع بيان الأحاديث في حديث أنس ، وقوله صلى الله عليه وسلم : { إني أظل يطعمني ربي ويسقيني } ولا يقال : ظل إلا في النهار ، فدل على أنه لم يأكل .

                                      ( والثاني ) أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من الجنة كرامة له لا تشاركه فيها الأمة ، وذكر صاحب العدة والبيان تأويلا [ ص: 402 ] ثالثا مع هذين قالا : وقيل : معناه أن محبة الله تشغلني عن الطعام والشراب ، والحب البالغ يشغل عنهما .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : الحكمة في النهي عن الوصال لئلا يضعف عن الصيام والصلاة وسائر الطاعات ، أو يملها ويسأم منها لضعفه بالوصال ، أو يتضرر بدنه أو بعض حواسه وغير ذلك من أنواع الضرر . فرع في مذاهب العلماء في الوصال ذكرنا أن مذهبنا أنه منهي ، عنه وبه قال الجمهور ، وقال العبدري : وهو قول العلماء كافة إلا ابن الزبير ، فإنه كان يواصل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن المنذر : كان ابن الزبير وابن أبي نعيم يواصلان ، وذكر الماوردي في الحاوي أن عبد الله بن الزبير واصل سبعة عشر يوما ثم أفطر على سمن ولبن وصبر . قال : وتأول في السمن أنه يلين الأمعاء ، واللبن ألطف غذاء ، والصبر يقوي الأعضاء دليلنا الحديث السابق وما سنذكره من الأحاديث إن شاء الله تعالى .

                                      ( فرع ) في بيان جملة من أحاديث الوصال ، عن ابن عمر قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال قالوا : إنك تواصل ، قال : إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى } ورواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان فواصل الناس فنهاهم قيل له : أنت تواصل ، قال : إني لست مثلكم ، إني أطعم وأسقى } .

                                      وعن أبي هريرة قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال فقال رجل : فإنك يا رسول الله تواصل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأيكم مثلي ؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ، فلما أبوا أن لا ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال ، فقال : لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا } رواه البخاري ومسلم ، وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إياكم والوصال مرتين قيل : إنك تواصل قال : أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون } [ ص: 403 ] رواه البخاري بهذا اللفظ ومسلم بمعناه واكلفوا بفتح اللام : معناه خذوا برغبة ونشاط . وعن عائشة قالت : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم قالوا : إنك تواصل ، قال : إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني } رواه البخاري ومسلم ، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تواصلوا قالوا : إنك تواصل قال : إني لست كأحد منكم ، إني أطعم وأسقى } رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه وعنه قال : { واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان فواصل ناس فبلغه ذلك ، فقال : لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا ، ويدع المتعمقون تعمقهم إنكم لستم مثلي - أو قال : إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني } رواه مسلم هنا ، والبخاري في باب : لو من كتاب التمني في صحيحه .

                                      وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ، قال : إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني } رواه البخاري .




                                      الخدمات العلمية