الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      . قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولو كان عليه قضاء شيء من رمضان فلم يصم حتى مات نظرت فإن أخره لعذر اتصل بالموت - لم يجب عليه شيء ; لأنه فرض لم يتمكن من فعله إلى الموت فسقط حكمه كالحج ، وإن زال العذر وتمكن فلم يصمه حتى مات أطعم عنه لكل مسكين مد من طعام عن كل يوم ، ومن أصحابنا من قال : فيه قول آخر أنه يصام عنه لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من مات [ ص: 414 ] وعليه صيام صام عنه وليه } ولأنه عبادة تجب بإفسادها الكفارة ، فجاز أن يقضى عنه بعد الموت كالحج ، والمنصوص في الأم هو الأول وهو الصحيح ، والدليل عليه ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من مات وعليه صيام فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين } ولأنه عبادة لا تدخلها النيابة في حال الحياة فلا تدخلها النيابة بعد الموت كالصلاة .

                                      ( فإن قلنا ) [ إنه يصام عنه فصام عنه ] وليه أجزأه ، فإن أمر أجنبيا فصام عنه بأجرة أو بغير أجرة أجزأه كالحج ، وإن قلنا : يطعم عنه ، نظرت فإن مات قبل أن يدركه رمضان آخر أطعم عنه عن كل يوم مسكين ، وإن مات بعد ما أدركه رمضان آخر ففيه وجهان : ( أحدهما ) يلزمه مدان مد للصوم ، ومد للتأخير .

                                      ( والثاني ) يكفيه مد واحد للتأخير ; لأنه إذا أخرج مدا للتأخير زال التفريط بالمد ، فيصير كما لو أخره بغير تفريط فلا تلزمه كفارة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عائشة رواه البخاري ومسلم ، وحديث ابن عمر رواه الترمذي ، وقال : هو غريب ، قال : والصحيح أنه موقوف على ابن عمر من قوله . وقول المصنف : عبادة تجب بإفسادها الكفارة احتراز من الصلاة ( وقوله ) عبادة لا تدخلها النيابة في حال الحياة ، احتراز من الحج في حق المعضوب .

                                      ( أما حكم المسألة ) فقال أصحابنا : من مات وعليه قضاء رمضان أو بعضه فله حالان : ( أحدهما ) أن يكون معذورا في تفويت الأداء ودام عذره إلى الموت كمن اتصل مرضه أو سفره أو إغماؤه أو حيضها أو نفاسها أو حملها أو إرضاعها ونحو ذلك بالموت لم يجب شيء على ورثته ، ولا في تركته لا صيام ولا إطعام ، وهذا لا خلاف فيه عندنا ، ودليله ما ذكره المصنف من القياس على الحج . [ ص: 415 ] الحال الثاني ) أن يتمكن من قضائه سواء فاته بعذر أم بغيره ، ولا يقضيه حتى يموت ، ففيه قولان مشهوران ( أشهرهما وأصحهما ) عند المصنف والجمهور وهو المنصوص في الجديد أنه يجب في تركته لكل يوم مد من طعام ، ولا يصح صيام وليه عنه ، قال القاضي أبو الطيب في المجرد : هذا هو المنصوص للشافعي في كتبه الجديدة ، وأكثر القديمة ( والثاني ) وهو القديم وهو الصحيح عند جماعة من محققي أصحابنا وهو المختار ، أنه يجوز لوليه أن يصوم عنه ، ويصح ذلك ويجزئه عن الإطعام وتبرأ به ذمة الميت ، ولكن يلزم الولي الصوم ، بل هو إلى خيرته ، ودليلهما في الكتاب ، وسأفرد له فرعا أبسط أدلته فيه إن شاء الله .

                                      قال المصنف والأصحاب : فإذا قلنا بالقديم فأمر الولي أجنبيا فصام عن الميت بأجرة أو بغيرها ، جاز بلا خلاف كالحج ، ولو صام الأجنبي مستقلا به من غير إذن الولي فوجهان مشهوران ( أصحهما ) لا يجزئه ، قال صاحب البيان : وهذا هو المشهور في المذهب ، وقد أشار إليه المصنف بقوله : وإن أمر أجنبيا ، وأما المراد بالولي الذي يصوم عنه وليه . وقال صاحب الحاوي : مذهب الشافعي في القديم والجديد أنه يطعم عنه ولا يصام عنه ، قال وحكى بعض أصحابنا عن القديم أنه يصوم عنه وليه ; لأنه . قال فيه : قد روي لك في ذلك خبر ، فإن صح قلت به ، فجعله قولا ثانيا قال : وأنكر سائر أصحابنا أن يكون صوم الولي عنه مذهبا للشافعي رضي الله عنه وتأولوا الأحاديث الواردة { من مات وعليه صوم صام عنه وليه } إن صح على أن المراد الإطعام ، أي يفعل عنه ما يقوم مقام الصيام وهو الإطعام ، وفرقوا بينه وبين الحج بأن الحج تدخله النيابة في الحياة ولا تدخل الصوم النيابة في الحياة بلا خلاف هذا هو المشهور عند الأصحاب .

                                      ( القول الثاني ) وهو القديم أنه يجوز لوليه أن يصوم عنه ولا يلزمه ذلك ، وعلى هذا القول لو أطعم عنه جاز ، فهو على القديم مخير بين الصيام والإطعام ، هكذا نقله البيهقي وغيره وهو متفق عليه [ ص: 416 ] على القديم وهذا القديم هو الصحيح عند جماعة من محققي أصحابنا الجامعين بين الفقه والحديث ، واستدلوا له بالأحاديث الصحيحة ( منها ) حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم { من مات وعليه صيام صام عنه وليه } رواه البخاري ومسلم . وعن ابن عباس قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ فقال : لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال : نعم ، قال : فدين الله أحق أن يقضى } رواه البخاري ومسلم .

                                      وعن ابن عباس أيضا قال : { جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر ، أفأصوم عنها ؟ قال : أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قالت : نعم ، قال : فصومي عن أمك } رواه مسلم ورواه البخاري أيضا تعليقا بمعناه . وعن بريدة قال : { بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت : يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية ، وإنها ماتت فقال : وجب أجرك وردها عليك الميراث قالت : يا رسول الله ، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها ، قالت : إنها لم تحج قط أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها } رواه مسلم .

                                      وعن ابن عباس { أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهرا فنجاها الله سبحانه وتعالى فلم تصم حتى ماتت ، فجاءت بنتها أو أختها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها } رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين ، وفي المسألة أحاديث غير ما ذكرته ، وروى البيهقي في السنن الكبرى هذه الأحاديث ، وأحاديث كثيرة بمعناها ، ثم قال : فثبت بهذه الأحاديث جواز الصيام ، قال : وكان الشافعي قال في القديم : قد روي في الصوم عن الميت شيء فإن كان ثابتا صيم عنه كما يحج عنه . وأما في الجديد فقال : روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه يصوم عنه وليه " قال : وإنما نأخذ به ; لأن الزهري روى عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 417 ] نذرا ولم يسمه مع حفظ الزهري وطول مجالسة عبيد الله بن عباس ، فلما روى غيره عن رجل عن ابن عباس غير ما في حديث عبيد الله أشبه أن لا يكون محفوظا . قال البيهقي : يعني به حديث الشافعي عن مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عباس { أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أمي ماتت وعليها نذر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اقضه عنها } قال البيهقي : وهذا الحديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية مالك وغيره عن الزهري ، إلا أن في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس { أن امرأة سألت } يعني عن الصوم عن أمها ، وكذلك رواه الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير عن ابن عباس ، ورواه عكرمة عن ابن عباس ورواه بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                      وقال البيهقي أيضا في معرفة السنن والآثار : قد ثبت جواز قضاء الصوم عن الميت برواية سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة عن ابن عباس ، وفي رواية أكثرهم " أن امرأة سألت " وقد ثبت الصوم عنه من رواية عائشة ورواية بريدة ثم قال البيهقي في الكتابين : فالأشبه أن تكون قصة السؤال فيها عن الصيام بعينه غير قصة سعد بن عبادة ، التي سأل فيها عن نذر مطلق ، كيف وقد ثبت الصوم عنه بحديث عائشة وحديث بريدة . قال البيهقي : وقد رأيت بعض أصحابنا يضعف حديث ابن عباس بما روى عن يزيد بن زريع ، عن حجاج الأحول عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : { لا يصوم أحد عن أحد ويطعم عنه } . وفي رواية عن ابن عباس أنه في صيام رمضان يطعم عنه ، وفي النذر يصوم عنه وليه قال : ورأيت بعضهم ضعف حديث عائشة بما روي عن عمارة بن عمير عن امرأة عن عائشة في امرأة ماتت وعليها صوم قالت : يطعم عنها ، وروي عن عائشة " لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم " قال البيهقي : وليس فيما ذكروا ما يوجب ضعف الحديث في الصيام عنه ; لأن من يجوز الصيام عن الميت يجوز [ ص: 418 ] الإطعام عنه ، قال : وفيما روي عنها في النهي عن الصوم عن الميت نظر ، والأحاديث المرفوعة أصح إسنادا وأشهر رجالا ، وقد أودعها صاحبا الصحيحين كتابيهما ، ولو وقف الشافعي على جميع طرقها ونظائرها لم يخالفها إن شاء الله تعالى . هذا آخر كلام البيهقي .

                                      ( قلت ) الصواب الجزم بجواز صوم الولي عن الميت سواء صوم رمضان والنذر وغيره من الصوم الواجب ; للأحاديث الصحيحة السابقة ، ولا معارض لها ويتعين أن يكون هذا مذهب الشافعي ; لأنه قال : " إذا صح الحديث فهو مذهبي واتركوا قولي المخالف له " وقد صحت في المسألة أحاديث كما سبق ، والشافعي إنما وقف على حديث ابن عباس من بعض طرقه كما سبق ، ولو وقف على جميع طرقه وعلى حديث بريدة ، وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالف ذلك كما قال البيهقي فيما قدمناه عنه في آخر كلامه ، فكل هذه الأحاديث صحيحة صريحة فيتعين العمل بها لعدم المعارض لها . وأما حديث ابن عمر في الإطعام عنه فقد سبق قول الترمذي فيه أنه لا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن الصحيح أنه موقوف على ابن عمر . وكذا قال البيهقي وغيره من الحفاظ : لا يصح مرفوعا ، وإنما هو من كلام ابن عمر ، وإنما رفعه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر { عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يموت وعليه رمضان لم يقضه ، قال : يطعم عنه لكل يوم نصف صاع بر } قال البيهقي : هذا خطأ من وجهين ( أحدهما ) رفعه ، وإنما هو موقوف ( الثاني ) قوله ( نصف صاع ) فإنما قال ابن عمر مدا من حنطة .

                                      ( قلت ) وقد اتفقوا على تضعيف محمد بن أبي ليلى ، وأنه لا يحتج بروايته ، وإن كان إماما في الفقه . وأما ما حكاه البيهقي [ ص: 419 ] عن بعض أصحابنا من تضعيف حديث ابن عباس وعائشة بمخالفتهما لروايتهما فغلط من زاعمه ; لأن عمل العالم وفتياه بخلاف حديث رواه لا يوجب ضعف الحديث ولا يمنع الاستدلال به ، وهذه قاعدة معروفة في كتب المحدثين والأصوليين لا سيما وحديثاهما في إثبات الصوم عن الميت في الصحيح والرواية عن عائشة في فتياها من عند نفسها بمنع الصوم ضعيف لم يحتج به لو لم يعارضها شيء ، كيف وهي مخالفة للأحاديث الصحيحة . وأما تأويل من تأول من أصحابنا " صام عنه وليه " أي أطعم بدل الصيام ، فتأويل باطل يرده باقي الأحاديث .

                                      ( فرع ) إذا قلنا : لا يصام عن الميت بل يطعم عنه ، فإن مات قبل رمضان الثاني أطعم عنه لكل يوم مد من طعام بلا خلاف عندنا ، وإن مات بعد مجيء رمضان الثاني فوجهان حكاهما المصنف والأصحاب وهما مشهوران ذكر المصنف دليلهما ( أحدهما ) قاله ابن سريج يطعم لكل يوم مد ( وأصحهما ) عن كل يوم مدان ، وبه قال جمهور أصحابنا المتقدمين ، واتفق المتأخرون على تصحيحه ، وقد سبقت هذه المسألة واضحة مع نظائرها قبل هذا الفصل بقليل ، وسبق تفريع كثير على القولين .



                                      ( فرع ) حكم صوم النذر والكفارة وجميع أنواع الصوم الواجب سواء في جميع ما ذكرناه ، ففي الجديد يطعم عنه لكل يوم مد ، وفي القديم للولي أن يطعم عنه وله أن يصوم عنه كما سبق ، والصحيح هو القديم كما سبق .



                                      ( فرع ) إذا قلنا : إنه يجوز صوم الولي فصام عنه ثلاثون إنسانا في يوم واحد هل يجزئه عن صوم جميع رمضان ؟ فهذا مما لم أر لأصحابنا كلاما فيه ، وقد ذكر البخاري في صحيحه عن الحسن البصري أنه يجزئه ، وهذا هو الظاهر الذي نعتقده .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا وغيرهم : ولا يصام عن أحد في حياته بلا خلاف ، سواء كان عاجزا أو قادرا .



                                      [ ص: 420 ] ( فرع ) لو مات وعليه صلاة أو اعتكاف ، لم يفعلهما عنه وليه ، ولا يسقط عنه بالفدية صلاة ولا اعتكاف . هذا هو المشهور في المذهب والمعروف من نصوص الشافعي في الأم وغيره . نقل البويطي عن الشافعي أنه قال في الاعتكاف : يعتكف عنه وليه . وفي رواية يطعم عنه . قال البغوي : ولا يبعد تخريج هذا في الصلاة فيطعم عن كل صلاة مد ، فإذا قلنا بالإطعام في الاعتكاف فالقدر المقابل بالمد هو اعتكاف يوم بليلته . هكذا ذكره إمام الحرمين عن نقل شيخه . ثم قال الإمام وهو مشكل ، فإن اعتكاف لحظة عبادة تامة . ونقل صاحب البيان في آخر كتاب الاعتكاف أن الصيدلاني حكى أنه يطعم في الاعتكاف عنه لكل يوم مسكين ، قال : ولم أجد هذا لغير الصيدلاني .



                                      ( فرع ) في حكم الفدية وبيانها ، سواء الفدية المخرجة عن الميت والمرضع والحامل والشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه ، ومن عصى بتأخير قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر ، ومن أفطر عمدا وألزمناه الفدية على وجه ضعيف ، وغيرهم ممن تلزمه فدية الصوم وهي مد من طعام لكل يوم جنسه جنس زكاة الفطر ، فيعتبر غالب قوت بلده في أصح الأوجه ، وفي الثاني : قوت نفسه ، وفي الثالث : يتخير بين جميع الأقوات ويجيء فيه الخلاف والتفريع السابق هناك ، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق ولا الحب المعيب ولا القيمة ، ولا غير ذلك مما سبق هناك . ومصرفها الفقراء أو المساكين ، وكل مد منها منفصل عن غيره ، فيجوز صرف أمداد كثيرة عن الشخص الواحد والشهر الواحد إلى مسكين واحد أو فقير واحد ، بخلاف إمداد الكفارة فإنه يجب صرف كل مد إلى مسكين ولا يصرف إلى مسكين من كفارة واحدة مدان ، لأن الكفارة شيء واحد وأما الفدية عن أيام رمضان فكل يوم مستقبل بنفسه لا يفسد بفساد ما قبله ولا ما بعده ، وممن صرح بمعنى هذه الجملة البغوي والرافعي .



                                      [ ص: 421 ] فرع في مذاهب العلماء فيمن مات وعليه صوم فاته بمرض أو سفر أو غيرهما من الأعذار ولم يتمكن من قضائه حتى مات . ذكرنا أن مذهبنا أنه لا شيء عليه ولا يصام عنه ولا يطعم عنه بلا خلاف عندنا . وبه قال أبو حنيفة ومالك والجمهور . قال العبدري : وهو قول العلماء كافة إلا طاوسا وقتادة فقالا : يجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين ; لأنه عاجز فأشبه الشيخ الهرم . واحتج البيهقي وغيره من أصحابنا لمذهبنا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } رواه البخاري ومسلم واحتجوا أيضا بالقياس على الحج كما ذكره المصنف ، وفرقوا بينه وبين الشيخ الهرم بأن الشيخ عامر الذمة ومن أهل العبادات بخلاف الميت .



                                      فرع في مذاهبهم فيمن تمكن من صوم رمضان فلم يصمه حتى مات . قد ذكرنا أن في مذهبنا قولين ( أشهرهما ) يطعم عنه كل يوم مد من طعام ( وأصحهما ) في الدليل يصوم عنه وليه ، وممن قال بالصيام عنه طاوس والحسن البصري والزهري وقتادة وأبو ثور وداود . وقال ابن عباس وأحمد وإسحاق : يصام عنه صوم النذر ، ويطعم عن صوم رمضان . وقال ابن عباس وابن عمر وعائشة ومالك وأبو حنيفة والثوري : يطعم عنه ، ولا يجوز الصيام عنه ، لكن حكى ابن المنذر عن ابن عباس والثوري أنه يطعم عن كل يوم مدان .



                                      فرع في مسائل تتعلق بكتاب الصيام : ( إحداها ) يستحب أن يدعو عند رؤية الهلال بما رواه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان إذا رأى الهلال قال : اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام ، ربي وربك الله } رواه الترمذي وقال حديث حسن ، وعن ابن عمر [ ص: 422 ] قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال : الله أكبر ، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى ، ربنا وربك الله } رواه الدارمي في مسنده ، وروى أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن قتادة قال : بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان { إذا رأى الهلال قال : هلال خير ورشد ، هلال خير ورشد آمنت بالذي خلقك - ثلاث مرات - ثم يقول : الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا } هكذا رواه عن قتادة مرسلا ، وفي المسألة أذكار أخر ذكرتها في كتاب الأذكار .



                                      ( الثانية ) يستحب للصائم أن يدعو في حال صومه بمهمات الآخرة والدنيا له ولمن يحب وللمسلمين ، لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ثلاث لا ترد دعوتهم : الصائم حتى يفطر والإمام العادل والمظلوم } رواه الترمذي وابن ماجه ، قال الترمذي : حديث حسن ، وهكذا الرواية حتى - بالتاء - المثناة فوق ، فيقتضي استحباب دعاء الصائم من أول اليوم إلى آخره ; لأنه يسمى صائما في كل ذلك .



                                      ( الثالثة ) عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يقول أحدكم : إني صمت رمضان كله وقمته } ، فلا أدري أكره التزكية أو قال : لا بد من نومة أو رقدة " رواه أبو داود والنسائي بأسانيد حسنة أو صحيحة ، وممن ذكره من أصحابنا صاحب البيان .



                                      ( الرابعة ) قال المصنف في التنبيه وغيره من أصحابنا : يكره صمت يوم إلى الليل للصائم ولغيره من غير حاجة ; لحديث علي رضي الله عنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل } رواه أبو داود بإسناد حسن .

                                      وعن قيس بن أبي حازم قال : " دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم ، فقال : ما لها لا تتكلم ؟ فقالوا : حجت مصمتة ، فقال لها : تكلمي فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية فتكلمت " رواه البخاري في صحيحه . [ ص: 423 ] قوله : امرأة من أحمس هو - بالحاء والسين المهملتين - وهي قبيلة معروفة والنسبة إليهم أحمسي ، قال الخطابي في معالم السنن في تفسير الحديث الأول : كان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات ، وكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت لا ينطق ، فنهوا - يعني في الإسلام - عن ذلك وأمروا بالذكر والحديث بالخير . هذا كلام الخطابي ، وهذا الذي ذكرناه هو المعروف لأصحابنا ولغيرهم أن الصمت إلى الليل مكروه . وقال صاحب التتمة في هذا الباب : جرت عادة بعض الناس بترك الكلام في رمضان جملة ، وليس له أصل في الشرع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يلازم أحد منهم الصمت في رمضان ، لكن له أصل في شرع من قبلنا وهو قصة زكريا عليه السلام { إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } أراد بالصوم الصمت فمن قال من أصحابنا : شرع من قبلنا يلزمنا عند عدم النهي ، جعل ذلك قربة ، ومن قال : شرع من قبلنا لا يلزمنا ، قال : لا يستحب ذلك ، هذا كلام صاحب التتمة ، وهو كلام بناه على شرعنا لم يرد فيه نهي ، وقد ورد النهي كما قدمناه فهو الصواب .



                                      ( الخامسة ) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : الجود والأفضال يستحب في كل وقت ، وهو في رمضان آكد ، ويسن زيادة الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان ، ودليل المسألتين الأحاديث الصحيحة منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان ، حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة } رواه البخاري ومسلم . قال العلماء : وقوله كالريح المرسلة أي في الإسراع والعموم . وعن عائشة رضي الله عنها { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر } [ ص: 424 ] رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم { كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهده في غيره } وعن علي رضي الله عنه قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر ويرفع المئزر } رواه الترمذي . وقال حديث حسن صحيح .

                                      وعن أنس قال : { قيل : يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل ؟ قال : صدقة رمضان } رواه البيهقي . قال أصحابنا : والجود والأفضال مستحب في شهر رمضان ، وفي العشر الأواخر أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسلف ، ولأنه شهر شريف فالحسنة فيه أفضل من غيره ، ولأن الناس يشتغلون فيه بصيامهم وزيادة طاعتهم عن المكاسب فيحتاجون إلى المواساة وإعانتهم .



                                      ( فرع ) قال الماوردي : ويستحب للرجل أن يوسع على عياله في شهر رمضان وأن يحسن إلى أرحامه وجيرانه لا سيما في العشر الأواخر منه .



                                      ( السادسة ) قال أصحابنا : السنة كثرة تلاوة القرآن في رمضان ومدارسته ، وهو أن يقرأ على غيره ويقرأ غيره عليه ، للحديث السابق عن ابن عباس ويسن الاعتكاف فيه وآكد العشر الأواخر منه ; لحديث ، ابن عمر وعائشة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان } رواهما البخاري ومسلم ، وفي الصحيح عن جماعة من الصحابة وغيرهم معناه .

                                      وثبت في الصحيح { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأولى والعشر الوسط من رمضان } من رواية أبي سعيد الخدري .



                                      ( السابعة ) يستحب صون نفسه في رمضان عن الشهوات فهو سر الصوم ، ومقصوده الأعظم ، وسبق أنه يحترز عن الغيبة والكلام القبيح والمشاتمة والمسافهة وكل ما لا خير فيه من الكلام .



                                      ( الثامنة ) يستحب تقديم غسل الجنابة من جماع أو احتلام على طلوع الفجر والأحاديث الصحيحة في تأخيره محمولة على بيان [ ص: 425 ] الجواز ، وإلا فالكثير من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقديمه على الفجر .



                                      ( التاسعة ) قال الشافعي والأصحاب : يكره للصائم السواك بعد الزوال هذا هو المشهور ، ولا فرق بين صوم النفل والفرض ، وقال القاضي حسين : لا يكره في النفل ليكون أبعد من الرياء ، وهذا غريب ضعيف ، وللشافعي قول غريب أن السواك لا يكره في كل صوم لا قبل الزوال ولا بعده ، وقد سبقت المسألة في باب السواك مبسوطة ، قال أصحابنا : وإذا استاك فلا فرق بين السواك الرطب واليابس بشرط أن يحترز عن ابتلاع شيء منه أو من رطوبته ، فإن ابتلعه أفطر . والاستياك قبل الزوال بالرطب واليابس جائز بلا كراهة ، وبه قال ابن عمر وعروة ومجاهد وأيوب وأبو حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي وأبو ثور وداود ، وكرهه بالرطب جماعة حكاه ابن المنذر عن عمرو بن شرحبيل والشعبي والحكم وقتادة ومالك وأحمد وإسحاق ، وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يكره ، وقال ابن المنذر : وممن قال بالسواك للصائم قبل الزوال وبعده عمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وابن سيرين والنخعي وأبو حنيفة ومالك وكرهه بعد الزوال عطاء ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور .



                                      ( العاشرة ) قد سبق أن الحيض والنفاس والجنون والردة كل واحد منهما يبطل الصوم ، سواء طال أم كان لحظة من النهار ، وصوم الصبي المميز صحيح والذي لا يميز لا يصح ، وكذا لا يصح صوم السكران ، قال أصحابنا : شرط الصوم الإسلام والتمييز إلا المغمى عليه والنائم كما سبق فيهما ، والنقاء عن الحيض والنفاس والوقت القابل للصوم احتراز عن العيد والتشريق .



                                      ( الحادية عشرة ) عن أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقدمت له طعاما فقال : كلي . فقالت : إني صائمة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا } رواه الإمام أحمد والترمذي وقال : حديث حسن .




                                      الخدمات العلمية