الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 165 ] المسألة الأولى

          اختلفوا في أن النبي عليه السلام هل كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه ؟

          [1] فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف : إنه كان متعبدا به ، وقال أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم : إنه لم يكن متعبدا به ، وجوز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع ، وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري .

          ومن الناس من قال : إنه كان له الاجتهاد في أمور الحروب دون الأحكام الشرعية .

          والمختار جواز ذلك عقلا ووقوعه سمعا .

          أما الجواز العقلي : فلأنا لو فرضنا أن الله تعالى تعبده بذلك وقال له : " حكمي عليك أن تجتهد وتقيس " لم يلزم عنه لذاته محال عقلا ، ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك .

          [2] وأما الوقوع السمعي فيدل عليه الكتاب والسنة والمعقول .

          أما الكتاب فقوله تعالى : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) أمر بالاعتبار على العموم لأهل البصائر ، والنبي عليه السلام أجلهم في ذلك ، فكان داخلا في العموم ، وهو دليل التعبد بالاجتهاد والقياس على ما سبق تقريره في إثبات القياس على منكريه .

          وأيضا قوله تعالى : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) [ ص: 166 ] وما أراه يعم الحكم بالنص والاستنباط من النصوص .

          [3] وأيضا قوله تعالى : ( وشاورهم في الأمر ) .

          والمشاورة إنما تكون فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد لا فيما يحكم فيه بطريق الوحي .

          وأيضا قوله تعالى بطريق العتاب للنبي عليه السلام في أسارى بدر وقد أطلقهم : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) فقال عليه السلام : " لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر " [4] لأنه كان قد أشار بقتلهم ، وذلك يدل على أن ذلك كان بالاجتهاد لا بالوحي .

          وأيضا قوله تعالى : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) عاتبه على ذلك ونسبه إلى الخطأ ، وذلك لا يكون فيما حكم فيه بالوحي ، فلم يبق سوى الاجتهاد وليس ذلك خاصا بالنبي عليه السلام ، بل كان غيره أيضا من الأنبياء متعبدا بذلك .

          ويدل عليه قوله تعالى : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) الآية ، وقوله : ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) ، وما يذكر بالتفهيم إنما يكون بالاجتهاد لا بطريق الوحي .

          [5] وأما السنة فما روى الشعبي أنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي القضية وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به ، فيترك ما قضى به على حاله ، ويستقبل ما نزل به [ ص: 167 ] القرآن ، والحكم بغير القرآن لا يكون إلا باجتهاد .

          [6] وأيضا ما روي عنه أنه قال في مكة : لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها . فقال العباس : إلا الإذخر ، فقال عليه السلام : " إلا الإذخر " .

          [7] ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة فكان الاستثناء بالاجتهاد .

          وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال : " العلماء ورثة الأنبياء " [8] وذلك يدل على أنه كان متعبدا بالاجتهاد ، وإلا لما كانت علماء أمته وارثة لذلك عنه ، وهو خلاف الخبر .

          وأما المعقول فمن وجهين :

          الأول : أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بدلالة النص لظهوره ؛ وزيادة المشقة سبب لزيادة الثواب ، لقوله عليه السلام لعائشة : " ثوابك على قدر نصبك " [9] ، وقوله عليه السلام : " أفضل العبادات أحمدها " [10] ، أي أشقها ، فلو لم يكن النبي عليه السلام عاملا بالاجتهاد مع عمل أمته به لزم اختصاصهم بفضيلة لم توجد له ، وهو ممتنع ، فإن آحاد أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون أفضل من النبي في شيء أصلا .

          [ ص: 168 ] الثاني : أن القياس هو النظر في ملاحظة المعنى المستنبط من الحكم المنصوص عليه ، وإلحاق نظير المنصوص به بواسطة المعنى المستنبط ، والنبي عليه السلام أولى بمعرفة ذلك من غيره لسلامة نظره وبعده عن الخطإ والإقرار عليه .

          وإذا عرف ذلك فقد ترجح في نظره إثبات الحكم في الفرع ضرورة ، فلو لم يقض به لكان تاركا لما ظنه حكما لله تعالى على بصيرة منه وهو حرام بالإجماع .

          فإن قيل : ما ذكرتموه في بيان الجواز العقلي فالاعتراض عليه يأتي فيما نذكره من المعقول .

          وأما الآية الأولى : فقد سبق الاعتراض عليها [11] فيما تقدم .

          وأما قوله تعالى : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) أي بما أنزل إليك .

          وأما الآية الثالثة : فالمراد منها المشاورة في أمور الحروب والدنيا .

          [12] وكذلك العتاب في قوله تعالى : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) .

          وأما عتابه في أسارى بدر فلعله كان مخيرا بالوحي بين قتل الكل أو إطلاق الكل أو فداء الكل ، فأشار بعض الأصحاب بإطلاق البعض دون البعض ، فنزل العتاب للذين عينوا لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، غير أنه ورد بصيغة الجمع في قوله : " تريدون عرض الدنيا " والمراد به أولئك خاصة .

          وأما الخبر الأول : فهو مرسل ولا حجة في المراسيل كما سبق ، وإن كان حجة غير أنه يحتمل أنه كان يقضي بالوحي ، والوحي الثاني يكون ناسخا للأول .

          أما الخبر الثاني : فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريدا لاستثناء " الإذخر " فسبقه به العباس .

          وأما الخبر الثالث : فيدل على أن العلماء ورثة الأنبياء فيما كان للأنبياء ، ولا نسلم أن الاجتهاد كان للأنبياء حتى يكون موروثا عنهم .

          [ ص: 169 ] كيف ويحتمل أنه أراد به الإرث في تبليغ أحكام الشرع إلى العامة ، كما كان الأنبياء مبلغين للمبعوث إليهم .

          ويحتمل أنه أراد به الإرث فيما كان للأنبياء في حفظ قواعد الشريعة .

          وأما الوجه الأول من المعقول : فالثواب فيما عظمت مشقته ، وإن كان أكثر ولكن لا يلزم منه ثبوته للنبي عليه السلام ، وإلا لما ساغ له الحكم إلا بالاجتهاد تحصيلا لزيادة الثواب ، وهو ممتنع ، واختصاص علماء الأمة بذلك دون النبي عليه السلام لا يوجب كونهم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم مع اختصاصه بمنصب ورتبة النبوة وتشريفه بالبعثة وهداية الخلق بعد الضلالة على جهة العموم .

          وأما الوجه الثاني : وإن كان النبي عليه السلام أشد علما من غيره بمعرفة القياس وجهات الاستنباط ، إلا أن وجوب العمل به في حقه مشروط بعدم معرفة الحكم بالوحي ، وهذا الشرط مما لم يتبين في حقه عليه السلام فلا مشروط ، وهذا بخلاف علماء أمته فافترقا .

          وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على تعبده بالقياس والاجتهاد ، غير أنه معارض بما يدل على عدمه .

          وبيانه من جهة الكتاب والمعقول .

          أما الكتاب : فقوله تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ، وقوله تعالى : ( ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) ، وذلك ينفي أن يكون الحكم الصادر عنه بالاجتهاد .

          وأما المعقول : فمن عشرة أوجه :

          الأول : أن النبي عليه السلام نزل منزلا فقيل له : إن كان ذلك عن وحي فالسمع والطاعة ، وإن كان ذلك عن رأي فليس ذلك منزل مكيدة . فقال : بل هو بالرأي . [13] فدل على أنه تجوز مراجعته في الرأي ، وقد علم أنه لا تجوز مراجعته [ ص: 170 ] في الأحكام الشرعية فلا تكون عن رأي .

          الثاني : أنه لو كان في الأحكام الصادرة عنه ما يكون عن اجتهاد لجاز أن لا يجعل أصلا لغيره ، وأن يخالف فيه ، وأن لا يكفر مخالفه ; لأن جميع ذلك من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد .

          الثالث : لو كان متعبدا بالاجتهاد لأظهره ، ولما توقف على الوحي فيما كان يتوقف فيه في بعض الوقائع ; لما فيه من ترك ما وجب عليه من الاجتهاد ، واللازم ممتنع .

          الرابع : أن الاجتهاد لا يفيد سوى الظن ، والنبي عليه السلام كان قادرا على تلقي الأحكام من الوحي القاطع ، والقادر على تحصيل اليقين لا يجوز له المصير إلى الظن ، كالمعاين للقبلة لا يجوز له الاجتهاد فيها .

          الخامس : أن الأمور الشرعية مبنية على المصالح التي لا علم للخلق بها ، فلو قيل للنبي عليه السلام : احكم بما ترى ، كان ذلك تفويضا إلى من لا علم له بالأصلح ، وذلك مما يوجب اختلال المصالح الدينية والأحكام الشرعية .

          السادس : أن لنا صوابا في الرأي وصدقا في الخبر ، وقد أجمعنا على أن النبي عليه السلام ليس له أن يخبر بما لا يعلم كونه صدقا ، فكذلك لا يجوز له الحكم بما لا علم له بصوابه .

          السابع : أنه لو جاز أن يكون متعبدا بالاجتهاد لجاز أن يرسل الله رسولا ، ويجعل له أن يشرع شريعة برأيه وأن ينسخ ما تقدمه من الشرائع المنزلة من الله تعالى ، وأن ينسخ أحكاما أنزلها الله تعالى عليه برأيه ، وذلك ممتنع .

          الثامن : أنه لو جاز صدور الأحكام الشرعية عن رأيه واجتهاده فربما أورث ذلك تهمة في حقه ، وأنه هو الواضع للشريعة من تلقاء نفسه ، وذلك مما يخل بمقصود البعثة ، وهو ممتنع .

          التاسع : أن الاجتهاد عرضة للخطإ فوجب صيانة النبي عليه السلام عنه .

          العاشر : أن الاجتهاد مشروط بعدم النص ، وهذا غير متحقق في حق النبي عليه السلام ; لأن الوحي متوقع في حقه في كل حالة .

          والجواب عما ذكروه على الآية الأولى قد سبق فيما تقدم أيضا ، وعما ذكروه على الآية الثانية من وجهين :

          [ ص: 171 ] الأول : أن الحكم بما استنبط من المنزل يكون حكما بالمنزل ; لأنه حكم بمعناه ، ولهذا قال في آخر الآية : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) .

          [14] الثاني : أن حكمه بالاجتهاد حكم بما أراه الله ، فتقييده بالمنزل خلاف الإطلاق .

          وعما ذكروه على الآية الثالثة : أنه إنما أمر بالمشاورة في أمر الفداء ، وهو من أحكام الدين لتعلقه بأعظم مصالح العباد .

          [15] وبتقدير أن يكون كما ذكروه ، فهو حجة على من خالف فيه ، وبه دفع ما ذكروا على الآية الرابعة .

          وعما ذكروه على العتاب في أسارى بدر ، فهو على خلاف عموم الخطاب الوارد في الآية وتخصيص دليل ، فلا يصح .

          وعما ذكروه على الخبر الأول من السنة بما بيناه فيما سبق من أن المرسل حجة .

          [16] وقولهم : يحتمل أنه كان يحكم بالوحي ، والوحي الثاني ناسخ له .

          قلنا : النسخ خلاف الأصل لما فيه من تعطيل الدليل المنسوخ ، وذلك وإن كان نسخا لما حكم به النبي عليه السلام ، غير أن تعطيل دليل الاجتهاد بنسخ حكمه أولى من تعطيل القرآن .

          وعما ذكروه على الخبر الثاني أنه لو كان الإذخر مستثنى فيما نزل إليه لكان تأخيره إلى ما بعد قول العباس تأخيرا للاستثناء عن المستثنى منه مع دعوى الحاجة إلى اتصاله به حذرا من التلبيس ، وهو خلاف الأصل .

          وعما ذكروه على الخبر الثالث ، أن الظاهر من قوله : " العلماء ورثة الأنبياء " فيما اختصوا به من العلم مطلقا ، فلو لم تكن علومهم الاجتهادية موروثة عن الأنبياء لكان ذلك تقييدا للمطلق وتخصيصا للعام من غير ضرورة ، وهو ممتنع ، وبه يبطل ما ذكروه من التأويلات .

          [ ص: 172 ] وعما ذكروه على الوجه الأول من المعقول [17] إنما يصح أن لو كان ذلك ممكنا في جميع الأحكام وليس كذلك ، فإن الاجتهاد بالقياس يستدعي أصلا ثابتا لا بالاجتهاد قطعا للتسلسل .

          [18] قولهم : إنه قد اختص بمنصب الرسالة ، فلا يكون أحد أفضل منه .

          قلنا : وإن كان كذلك غير أن زيادة الثواب بزيادة المشقة نوع فضيلة ، فيبعد اختصاص أحد من أمته بفضيلة لا تكون موجودة في حق النبي عليه السلام ، وإلا كان أفضل منه من تلك الجهة ، وهو بعيد .

          وعما ذكروه على الثاني من المعقول أنه باطل باجتهاد أهل عصره ، فإنه كان واقعا بدليل تقريره لمعاذ على قوله : " أجتهد رأيي " ، ولم يكن احتمال معرفة الحكم بورود الوحي إلى النبي عليه السلام مانعا من الاجتهاد في حقه ، وإنما المانع وجود النص لاحتمال وجوده .

          وعن المعارضة بالآية الأولى أنها إنما تتناول ما ينطق به واجتهاده من فعله لا من نطقه ، والخلاف إنما هو في الاجتهاد لا في النطق .

          فإن قيل : فإذا اجتهد فلا بد وأن ينطق بحكم اجتهاده والإخبار عما ظنه من الحكم ، فتكون الآية متناولة له ، ومن المعلوم أن ما ينطق به إذا كان مستنده الاجتهاد فليس عن وحي وإن لم يكن عن هوى .

          قلنا : إذا كان متعبدا بالاجتهاد من قبل الشارع وقيل له : مهما ظننت باجتهادك حكما [19] ، فهو حكم الشرع فنطقه بذلك يكون عن وحي لا عن هوى .

          [ ص: 173 ] وعن الآية الثانية أنها إنما تدل على أن تبديله للقرآن ليس من تلقاء نفسه ، وإنما هو بالوحي ، والنزاع إنما وقع في الاجتهاد ، والاجتهاد وإن وقع في دلالة القرآن فذلك تأويل لا تبديل .

          وعن المعارضة الأولى من جهة المعقول : أن المراجعة إنما كانت في أمر دنيوي متعلق بالحروب ، وليس ذلك من المراجعة في أحكام الشرع في شيء .

          وعن الثانية : لا نسلم أن ما ذكروه من لوازم الأحكام الثابتة بالاجتهاد ، بدليل إجماع الأمة على الاجتهاد ، واجتهاد النبي عليه السلام لا يتقاصر عن اجتهاد الأمة الذين ثبتت عصمتهم بقول الرسول إن لم يكن مترجحا عليه .

          وعن الثالثة : أنه لا مانع أن يكون متعبدا بالاجتهاد ، وإن لم يظهره صريحا لمعرفة ذلك لما ذكرناه من الأدلة .

          وأما تأخره عن جواب بعض ما كان يسأل عنه فلاحتمال انتظار النص الذي لا يجوز معه الاجتهاد إلى حين اليأس منه ؛ أو لأنه كان في مهلة النظر في الاجتهاد فيما سئل عنه ، فإن زمان الاجتهاد في الأحكام الشرعية غير مقدر .

          [20] وعن الرابعة : النقض بما وقع الإجماع عليه من تعبد النبي عليه السلام بالحكم بقول الشهود حتى قال : " إنكم لتختصمون إلي ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض " مع إمكان انتظاره في ذلك لنزول الوحي الذي لا ريب فيه .

          [21] [ ص: 174 ] وعن الخامسة : أنها مبنية على وجوب اعتبار المصالح ، وهو غير مسلم على ما عرفناه في علم الكلام ، وإن سلمنا ذلك فلا مانع من إلهام الله تعالى له بالصواب فيما يجتهد فيه من الحوادث ، كيف وأن ما ذكروه منتقض بتعبد غيره بالاجتهاد .

          وعن السادسة من ثلاثة أوجه :

          الأول : أنها تمثيل من غير جامع صحيح ، فلا تكون حجة .

          الثاني : الفرق ، وهو أن الإخبار بما لا يعلم كونه صادقا قد لا نأمن فيه الكذب ، وهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، وذلك مما لا يجوز لأحد الإقدام عليه .

          وأما الاجتهاد فعلى قولنا بأن كل مجتهد مصيب ، فالنبي أولى أن يكون مصيبا ، والخطأ في الاجتهاد مبني على أن الحكم عند الله تعالى واحد في كل واقعة في نفس الأمر ، وليس كذلك ، بل الحكم عند الله في كل واقعة ما أدى إليه نظر المجتهد [22] على ما يأتي تقريره .

          [23] الثالث : أن ما ذكروه منتقض بإجماع الأمة إذا كان عن اجتهاد .

          وعن السابعة : أنها أيضا تمثيل من غير جامع صحيح ، كيف وأنا لا نمنع من إرسال رسول بما وصفوه لا عقلا ولا شرعا ، فإن لله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ، ولا سيما إذا قلنا بأن المصالح غير معتبرة في أفعاله تعالى .

          [24] وإن قلنا : إنها معتبرة ، فلا يبعد أن يعلم الله تعالى المصلحة للمكلفين في إرسال رسول بهذه المثابة ويعصمه عن الخطإ في اجتهاده ، كما في إجماع الأمة .

          [25] وعن الثامنة : أن التهمة منفية عنه في وضع الشريعة برأيه بما دل على صدقه فيما يدعيه من تبليغ الأحكام بجهة الرسالة من المعجزة القاطعة .

          وعن التاسعة : أنا لا نسلم أن كل اجتهاد في الأحكام الشرعية عرضة للخطإ ، [ ص: 175 ] بدليل إجماع الصحابة على [26] الاجتهاد ، واجتهاد النبي عليه السلام غير متقاصر عن اجتهاد أهل الإجماع ، فكان معصوما فيه عن الخطإ .

          [27] وعن العاشرة : أن المانع من الاجتهاد دائما هو وجود النص لا إمكان وجود النص ، ثم ما ذكروه منتقض باجتهاد الصحابة في زمن النبي عليه السلام .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية