الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء فيمن تولى غير مواليه أو ادعى إلى غير أبيه

                                                                                                          2127 حدثنا هناد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال خطبنا علي فقال من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة صحيفة فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات فقد كذب وقال فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حرام ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم قال أبو عيسى وروى بعضهم عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن علي نحوه قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة ) أي غيرهما وفي رواية للبخاري : ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال النووي : هذا تصريح من علي رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم إن عليا رضي الله عنه أوصى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم ، وقواعد الدين وكنوز الشريعة ، وإنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم ، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ، ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا انتهى .

                                                                                                          ( صحيفة ) بدل من هذه الصحيفة ( فيها أسنان الإبل ) أي بيان أسنانها ( وأشياء من الجراحات ) أي من أحكامها ( فقد كذب ) خبر لقوله من زعم ( وقال ) أي علي ( فيها ) أي في الصحيفة ( المدينة حرم ) بفتحتين ( ما بين عير ) بفتح العين المهملة وإسكان المثناة تحت ، جبل معروف بالمدينة ( إلى ثور ) بفتح الثاء المثلثة قال في القاموس : ثور جبل بالمدينة ، ومنه الحديث الصحيح : المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ، وأما قول عبيد بن سلام وغيره من الأكابر الأعلام : إن هذا تصحيف ، والصواب إلى أحد ; لأن ثورا إنما هو بمكة فغير جيد لما أخبرني الشجاع البعلي الشيخ الزاهد عن الحافظ أبي محمد عبد السلام البصري : أن حذاء أحد جانحا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور وتكرر سؤالي عنه طوائف من العرب العارفين بتلك الأرض فكل أخبر أن اسمه ثور ، ولما كتب إلى الشيخ عفيف الدين المطري عن والده الحافظ الثقة قال : إن خلف أحد عن شماليه جبلا صغيرا مدورا يسمى ثورا يعرفه أهل المدينة خلفا عن سلف انتهى ما في القاموس ، وقال الحافظ في الفتح : قال المحب الطبري في الأحكام بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه : قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحا إلى ورائه جبل صغير ، فذكر مثل ما في القاموس ، وفيه دليل على أن المدينة حرم كحرم مكة ، وفي هذا أحاديث عديدة مروية في الصحيحين وغيرهما وذكرها صاحب المنتقى قال [ ص: 270 ] الشوكاني : استدل بما في هذه الأحاديث من تحريم شجر المدينة وخبطه وعضده وتحريم صيدها وتنفيره ـ الشافعي ومالك وأحمد والهادي وجمهور أهل العلم على أن للمدينة حرما كحرم مكة يحرم صيده وشجره ، قال الشافعي ومالك : فإن قتل صيدا أو قطع شجرا فلا ضمان لأنه ليس بمحل للنسك فأشبه الحمى ، وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى يجب فيه الجزاء كحرم مكة ، وبه قال بعض المالكية وهو ظاهر قوله كما حرم إبراهيم مكة ، وذهب أبو حنيفة وزيد بن علي والناصر إلى أن حرم المدينة ليس بحرم على الحقيقة ولا تثبت له الأحكام من تحريم قتل الصيد وقطع الشجر والأحاديث ترد عليهم ، واستدلوا بحديث يا أبا عمير ما فعل النغير ، وأجيب بأن ذلك كان قبل تحريم المدينة أو أنه من صيد الحل انتهى .

                                                                                                          ( فمن أحدث ) أي أظهر في المدينة ( حدثا ) بفتحتين وهو الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعناه ولا معروف في السنة ( أو آوى ) بالمد ويقصر ، قال في النهاية : أوى فآوى بمعنى واحد ، والمقصود منهما لازم ومتعد ، يقال أويت إلى المنزل وأويت غيري وأويته ، وأنكر بعضهم المقصور المتعدي ، وقال الأزهري هي لغة فصيحة ، ومحدثا بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول ، فمعنى الكسر من نصر جانبا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه ، ومعنى الفتح هو الأمر المبتدع نفسه ويكون معنى الإيواء فيه المرضي به والصبر عليه فإنه إذا رضي ببدعته وأقر فاعله عليها ولم ينكرها فقد آواه ، قاله العيني ، وقال القاري بكسر الدال على الرواية الصحيحة أي مبتدعا ، وقيل أي جانبا إلى آخر ما قاله العيني ( فعليه ) أي فعلى كل منهما ( لعنة الله ) أي طرده وإبعاده ، قال عياض : استدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر ، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله ، قال والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر وليس هو كلعن الكافر ( والملائكة ) أي دعاؤهم عليه بالبعد عن رحمته ( والناس أجمعين ) أي من هذا الحدث والمؤدي أو هما داخلان أيضا لأنهما ممن يقول ألا لعنة الله على الظالمين ، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه .

                                                                                                          ( لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ) بفتح أولهما ، واختلف في تفسيرهما فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة ، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري وعن الحسن البصري بالعكس ، وعن الأصمعي : الصرف التوبة ، والعدل الفدية ، وقيل غير ذلك قال عياض : معناه لا يقبل قبول رضا وإن قبل قبول جزاء ، وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما ، وقد يكون معنى الفدية أنه لا يجد يوم القيامة فدى يفتدي بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري .

                                                                                                          ( ومن ادعى ) أي انتسب ( أو تولى غير مواليه ) بأن يقول عتيق لغير معتقه :

                                                                                                          [ ص: 271 ] أنت مولاي ولك ولائي ، قال البيضاوي : الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه على قوله من ادعى إلى غير أبيه ، والجمع بينهما بالوعيد فإن العتق من حيث إنه لحمة كلحمة النسب فإذا نسب إلى غير من هو له كان كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه وألحق نفسه بغيره فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة انتهى .

                                                                                                          وهذا صريح في غلظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه ، أو انتماء العتيق إلى غير مواليه لما فيه من كفر النعمة وتضييع حقوق الإرث والولاء والعقل وغير ذلك مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق ( وذمة المسلمين ) أي عهدهم وأمانهم ( واحدة ) أي أنها كالشيء الواحد لا يختلف باختلاف المراتب ولا يجوز نقضها لتفرد العاقد بها ( يسعى بها ) أي يتولاها ويلي أمرها ( أدناهم ) أي أدنى المسلمين مرتبة ، والمعنى أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر شريف أو وضيع ، فإذا أمن أحد من المسلمين كافرا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه ، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد لأن المسلمين كنفس واحدة .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه البخاري في الحج وفي الجزية وفي الفرائض وفي الاعتصام وأخرجه مسلم في الحج ( وروى بعضهم عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن علي نحوه ) أخرجه أحمد والنسائي ، وروى البخاري في الحج من طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي قال الحافظ : هذه رواية أكثر أصحاب الأعمش عنه ، وخالفهم شعبة فرواه عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث عن سويد عن علي ، قال الدارقطني في العلل : والصواب رواية الثوري ومن تبعه .




                                                                                                          الخدمات العلمية