الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( فائدة ) التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم والله غني عن عبادة الكل ، ولا تنفعه طاعة الطائعين ، ولا تضره معصية العاصين بل لو كانوا كلهم على أفجر قلب رجل واحد منهم لم ينقص ذلك من ملكه شيئا ، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل واحد منهم لم يزد ذلك في ملكه شيئا ، ولم يبلغوا ضره فيضروه ولا نفعه فينفعوه ، وكل ضال إلا من هداه الله ، وجائع إلا من أطعمه الله ، وعار إلا من كساه ، وإنما سبق علمه - سبحانه وتعالى - بترتيب بعض الحادثات على بعض من غير أن يكون مقدمها موجبا لمؤخرها ولا منشئا له بل هو المتحد بترتيب المسببات على أسبابها ، وبالعقوبات على المخالفات ، وبالمثوبات على الطاعات من غير أن [ ص: 74 ] يوجد شيء منها مما ترتب عليه ، بل الكل مستند إليه ، ولو عاقب من غير كفر وعصيان لكان عدلا مقسطا ، ولو أثاب من غير طاعة ، وإيمان لكان متفضلا ، وقد أجرى أحكامه في الدنيا على أسباب ربط بها ليعرف العباد بالأسباب أحكامها ليسارعوا بذلك إلى طاعته واجتناب معصيته إذا وقفوا على الأسباب ، فأمر المكلفين كلهم ونهاهم ، ودعاهم إلى طاعته واجتناب معصيته واقتضاهم ، مع علمه بأن أكثرهم يعصونه ولا يطيعونه ، ويخالفونه ولا يوافقونه لسبق علمه في ذلك فيهم ونفوذ إرادته وقضائه عليهم .

فإن قيل : إذا علم منهم ذلك فلم وجه الخطاب إليهم مع علمه أنهم لا يطيعون ولا يمتثلون ، وكيف يطلب منهم ما يخالف علمه فيهم ، وهم لا يقدرون على تبديل علمه ، ولا على تغيير حكمه ، فعلى هذا قد كلفهم بما لا يطيقون ; لأن ما علم أنه لا يكون فواجب ألا يكون ، وما علم أن يكون فواجب حتم أن يكون .

قلنا : أحسن ما قيل في ذلك أن توجه الخطاب إلى الأشقياء الذين لا يمتثلون ما أمروا به ، ولا يجتنبون ما نهوا عنه ، ليس طلبا على الحقيقة ، وإنما هو علامة وضعت على شقاوتهم ، وأمارة نصبت على تعذيبهم ، إذ لا يبعد في كلام العرب أن يعبر بصيغة الأمر والنهي عن الخبر كقوله - تعالى - : { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } ، وكقوله - تعالى - : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ، وكقوله : { ولنحمل خطاياكم } وكقوله : { قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم } ، ولا استبعاد في تعذيب من لم يذنب ولم يخالف ما سنذكره في إيلام المجانين والبهائم والصبيان إن شاء الله - تعالى - .

وكما روي في الحديث الصحيح : [ ص: 75 ] { إن الله عز وجل ينشئ في الجنة أقواما } ، وكذلك الحكم في الحور العين ، وكذلك الحكم في أطفال المسلمين ، وليس بدعا من إحسانه المبتدأ من غير عمل ، فإنه قد أحسن إلى الملائكة المقربين ، وإلى النبيين والمرسلين ، وكذلك أحسن إلى الفجار والأبرار في هذه الدار ، وكذلك إلى الحيوانات من الوحوش والبهائم والأنعام ، وقد يكلف بالطاعة ولا يثيب عليها كما كلف الملائكة المقربين ، ولا اعتراض على رب العالمين الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، ومن اعترض زاد شقاؤه ، واشتد بلاؤه ، وعظم عناؤه .

ويجاب على اعتراضه أن الربوبية ليست مقيدة بمصالح العبودية ، ولا حجر للعباد على ربهم حتى لا يفعل إلا ما يصلحهم ، بل القدرة الأزلية مطلقة لا تتقيد بما يصلح العباد ولا بما يعمر البلاد ، ولا بما يوجب الرشاد ، وقد شاهدنا ما يبتلى به من لا ذنب له ولا تكليف عليه كالصبيان والمجانين والبهائم من الآلام والأوصاب والجوع والظمأ والغرق والحرق ، مع أنا نعلم أن الرب لا ينتفع بذلك ولا يتضرر بفقده ، وكذلك لا ينتفع المبتلى بذلك بل ينتفع بفقده .

فإن قال بعض الأشقياء : إنما ذلك ليثيبهم عليه ؟ قلنا له : قد ضللت عن سواء السبيل ، أما كان في قدرة رب العالمين أن يحسن إليهم إلا عوضا عن تعذيبهم ؟ فإن قال : لا يقدر على ذلك ، فلا يخفى ما في قبح هذا الكلام .

وإن قال : إنه يقدر على ذلك قيل له فلماذا أضر بهؤلاء المساكين ؟ فإن قال الشقي : إنما فعل ذلك ليدفع ضرر منته .

فجوابه من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه كان قادرا على ألا يخلق لمنته ضررا .

الوجه الثاني : أن منة رب العالمين شرفا في الدنيا والآخرة ولا خروج لأحد منها ولا انفكاك له عنها ، وكيف نخرج عنها وهو الخالق لذواتنا وجميع صفاتنا وأرزاقنا .

[ ص: 76 ] الوجه الثالث : إن قدر في منة الرب ضرر - تعالى الله عن ذلك - فمفسدة ذلك الضرر أخف من المفاسد المذكورة بما لا يتناهى ، فإنا لو فرضنا مبتلى ملقى على المزابل مجذوما مقطوع اليدين والرجلين فأتاه إنسان غني يقدر على ألف قنطار من المال فقلع عينه ثم أطعمه لقمة فقيل له لم قلعت عين هذا الضعيف المسكين ؟ قال إنما قلعتها ثم أطعمه هذه اللقمة ، فقيل له : أكنت قادرا على إطعامه من غير أن تقلع عينه ؟ فقال نعم : كنت قادرا على ذلك فقيل : له فلم قلعتها مع سعة غناك وقدرتك على أن لا تقلعها ؟ فقال ; لأحسن إليه بدفع تمنني عليه ، لقطع العقلاء بقبح ما أتاه ولعدوه من أسخف الناس عقلا ، وأفسدهم عملا ، وأفشلهم رأيا ، فإن اعتبروا الغائب بالشاهد كان هذا مكذبا لهم لقبحه في الشاهد ، وحسن صدوره من الرب .

وإن لم يعتبروا الغائب بالشاهد لم يجز لهم إلحاق الغائب بالشاهد مع ظهور الفارق ، فإن هذا قبيح في الشاهد حسن في الغائب .

وقد قال الشافعي رحمه الله : القدرية إذا سلموا العلم خصموا ، ومعناه إذا سلموا أن الله عالم بما يقع في العالم من المفاسد فلم يزلها مع قدرته على إزالتها فهذا قبيح في الشاهد ممن قدر على إزالته ، ولا يقبح من الرب لموافقتهم على أنه قادر عليه ، وقد مثل ذلك برجل له عبد مفسد مقيد يعلم مالكه أنه لو أطلقه لأفسد أملاك سيده وأمواله ، ولزنا بإمائه وبناته ونسائه ، ولقتل أولاده وأحباءه ، فأطلقه ففعل ذلك كله وهو ينظر إليه قادرا على دفعه من غير عسر فلم يدفعه ، فإن هذا قبيح عند جميع العقلاء في مطرد العادات ، ولم يلحقوا الغائب فيه بالشاهد .

فإن الله أقدر العاصين على عصيانهم ، والمفسدين على إفسادهم ، مع أنه عالم بما يصدر منهم من المعاصي والفساد ، وهو مطلع عليهم ناظر إليهم لا يغير شيئا من ذلك مع قدرته على تغييره ، وقد اتفقنا على أن هذا حسن من الله - عز وجل - فإذا انقطع الغائب عن الشاهد في هذه الصورة فكيف يلحق به [ ص: 77 ] فيما سواها ، فيقول بعد هذا إنما نصبت الأسباب الشرعية لجلب المصالح ودرء المفاسد في حق بعض المكلفين دون بعض ، وهم الذين علم الله - عز وجل - أنهم يأتمرون بأوامره ، ويزدجرون بزواجره .

التالي السابق


الخدمات العلمية