الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (3) قوله: وأنه تعالى جد ربنا : قرأ الأخوان وابن عامر وحفص بفتح "أن" وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة، والباقون بالكسرة. وقرأ ابن عامر وأبو بكر "وإنه لما قام" بالكسرة، والباقون بالفتح، واتفقوا على الفتح في قوله: وأن المساجد لله وتلخيص هذا: أن "أن" المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام: قسم ليس معه واو العطف، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره. على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية، كقوله: قل أوحي إلي أنه استمع لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر وكقوله: إنا سمعنا قرآنا لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.

                                                                                                                                                                                                                                      القسم الثاني أن يقترن بالواو، وهو أربع عشرة كلمة، إحداها: لا خلاف في فتحها وهي قوله تعالى: وأن المساجد لله - وهذا هو القسم الثالث - والثانية: وأنه لما قام كسرها ابن عامر وأبو بكر، وفتحها الباقون. والاثنتا عشرة الباقية: فتحها الأخوان وابن عامر [ ص: 482 ] وحفص، وكسرها الباقون، كما تقدم تحرير ذلك كله. والاثنتا عشرة هي قوله: وأنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول ، وأنا ظننا ، وأنه كان رجال ، وأنهم ظنوا ، وأنا لمسنا ، وأنا كنا ، وأنا لا ندري ، وأنا منا الصالحون وأنا ظننا ، وأنا لما سمعنا ، وأنا منا المسلمون . وإذا عرفت ضبطها من حيث القراءات فالتفت إلى توجيه ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف الناس في ذلك فقال أبو حاتم في الفتح: "هو معطوف على مرفوع "أوحي" فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله". وهذا الذي قاله قد رده الناس عليه: من حيث إن أكثرها لا يصح دخوله تحت معمول "أوحي" ألا ترى أنه لو قيل: أوحي إلي أنا لمسنا السماء، وأنا كنا، وأنا لا ندري، وأنا منا الصالحون، وأنا لما سمعنا، وأنا منا المسلمون لم يستقم معناه. وقال مكي : "وعطف "أن" على [ ص: 483 ] آمنا به أتم في المعنى من العطف على "أنه استمع" لأنك لو عطفت وأنا ظننا ، وأنا لما سمعنا ، وأنه كان رجال من الإنس ، وأنا لمسنا ، وشبه ذلك على أنه استمع لم يجز; لأنه ليس مما أوحي، إليه، إنما هو أمر أو خبر، وأنه عن أنفسهم، والكسر في هذا أبين، وعليه جماعة من القراء.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن الفتح في ذلك عطف على محل "به" من "آمنا به". قال الزمخشري : "كأنه قال: صدقناه وصدقناه أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي"، إلا أن مكيا ضعف هذا الوجه فقال: والفتح في ذلك على الحمل على معنى "آمنا به" وفيه بعد في المعنى; لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به، ولم يخبروا أنهم آمنوا أنه كان رجال، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم، فالكسر أولى بذلك. وهذا الذي قاله غير لازم; فإن المعنى على ذلك صحيح. [ ص: 484 ] وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفراء والزجاج. إلا أن الفراء استشعر إشكالا وانفصل عنه، فإنه قال: "فتحت "أن" لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض، فلا يمنع من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح "أن" نحو: صدقنا وشهدنا، كما قالت العرب:


                                                                                                                                                                                                                                      4347-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وزججن الحواجب والعيونا



                                                                                                                                                                                                                                      فنصب "العيون" لإتباعها الحواجب، وهي لا تزجج. إنما تكحل، فأضمر لها الكحل. انتهى. فأشار إلى شيء مما ذكره مكي وأجاب عنه. وقال الزجاج: "لكن وجهه أن يكون محمولا على معنى "آمنا به"; لأن معنى "آمنا به" صدقناه وعلمناه، فيكون المعنى: صدقنا أنه تعالى جد ربنا".

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أنه معطوف على الهاء به "به"، أي: آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا، وبأنه كان يقول، إلى آخره، وهو مذهب الكوفيين. وهو وإن كان قويا من حيث المعنى إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة، لما عرفت من أنه لا يعطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار. وقد تقدم تحقيق هذين القولين مستوفى في سورة البقرة عند قوله: وكفر به [ ص: 485 ] والمسجد الحرام على أن مكيا قد قوى هذا لمدرك آخر وهو حسن جدا، قال رحمه الله: وهو - يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في "أن" أجود منه في غيرها، لكثرة حذف حرف الجر مع "أن".

                                                                                                                                                                                                                                      ووجه الكسر العطف على قوله: " إنا سمعنا " فيكون الجميع معمولا للقول، أي: فقالوا: إنا سمعنا، وقالوا: إنه تعالى جد ربنا إلى آخره. وقال بعضهم: الجملتان من قوله تعالى: وأنه كان رجال ، وأنهم ظنوا معترضتان بين قول الجن، وهما من كلام الباري تعالى، والظاهر أنهما من كلامهم، قاله بعضهم لبعض. ووجه الكسر والفتح في قوله: وأنه لما قام عبد الله ما تقدم. ووجه إجماعهم على فتح وأن المساجد وجهان، أحدهما: أنه معطوف على أنه استمع فيكون موحى أيضا. والثاني: أنه على حذف حرف الجر، وذلك الحرف متعلق بفعل النهي، أي: فلا تدعوا مع الله أحدا; لأن المساجد لله، ذكرهما أبو البقاء . [ ص: 486 ] قال الزمخشري : "أنه استمع" بالفتح; لأنه فاعل "أوحي"، و " إنا سمعنا " بالكسر; لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم تحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجن كسر، وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين وهما: وأن المساجد ، وأنه لما قام عبد الله . ومن فتح كلهن فعطفا على محل الجار والمجرور في " آمنا به " ، أي: صدقناه، وصدقنا أنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة: جد ربنا بالفتح مضافا لـ "ربنا"، والمراد به هنا العظمة. وقيل: قدرته وأمره. وقيل: ذكره. والجد أيضا: الحظ، ومنه قوله عليه السلام: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، والجد أيضا: أبو الأب، والجد بالكسر ضد التواني في الأمر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عكرمة بضم باء "ربنا" وتنوين "جد" على أن يكون "ربنا" بدلا من "جد"، والجد: العظيم. كأنه قيل: وأنه تعالى عظيم ربنا، فأبدل المعرفة من النكرة، وعنه أيضا "جدا" منصوبا منونا، "ربنا" مرفوع. ووجه ذلك أن ينتصب "جدا" على التمييز، و"وربنا" فاعل بـ "تعالى" وهو [ ص: 487 ] المنقول من الفاعلية، إذ التقدير: تعالى جد ربنا، ثم صار تعالى ربنا جدا، أي: عظمة نحو: تصبب زيد عرقا، أي: عرق زيد. وعنه أيضا وعن قتادة كذلك، إلا أنه بكسر الجيم، وفيه وجهان، أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف، و"ربنا" فاعل بـ "تعالى" والتقدير: تعالى ربنا تعاليا جدا، أي: حقا لا باطلا. والثاني: أنه منصوب على الحال، أي: تعالى ربنا حقيقة ومتمكنا قاله ابن عطية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حميد بن قيس "جد ربنا" بضم الجيم مضافا لـ "ربنا" وهو بمعنى العظيم، حكاه سيبويه ، وهو في الأصل من إضافة الصفة لموصوفها; إذ الأصل: ربنا العظيم نحو: "جرد قطيفة" الأصل قطيفة جرد، وهو مؤول عند البصريين وقرأ ابن السميفع "جدى ربنا" بألف بعد الدال مضافا لـ "ربنا". والجدى والجدوى: النفع والعطاء، أي: تعالى عطاء ربنا ونفعه.

                                                                                                                                                                                                                                      والهاء في "أنه استمع" "وأنه تعالى" وما بعد ذلك ضمير الأمر والشأن، وما بعده خبر "أن" وقوله ما اتخذ صاحبة مستأنف فيه تقرير لتعالي جده.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية