الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلف الفقهاء في ضمان العارية بعد اختلاف من السلف فيه ، فروي عن عمر وعلي وجابر وشريح وإبراهيم : " أن العارية غير مضمونة " . وروي عن ابن عباس وأبي هريرة : " أنها مضمونة " . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد : " هي غير مضمونة إذا هلكت " وهو قول ابن شبرمة والثوري والأوزاعي . وقال عثمان البتي : " المستعير ضامن لما استعاره إلا الحيوان والعقل ؛ فإن اشترط عليه في الحيوان والعقل الضمان فهو ضامن " .

وقال مالك : " لا يضمن الحيوان في العارية ويضمن الحلي والثياب ونحوها " . وقال الليث : " لا ضمان في العارية ولكن أبا العباس أمير المؤمنين قد كتب إلي بأن أضمنها فالقضاء اليوم على الضمان " : وقال الشافعي : " كل عارية مضمونة " قال أبو بكر : والدليل على نفي ضمانها عند الهلاك إذا لم يتعد فيها أن المعير قد ائتمن المستعير عليها حين دفعها إليه ، وإذا كان أمينا لم يلزمه ضمانها ؛ لأنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا ضمان على مؤتمن وذلك عموم في نفي الضمان عن كل مؤتمن .

وأيضا لما كانت مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط الضمان لم يضمنها كالوديعة . وأيضا قد اتفق الجميع على نفي ضمان الثوب المستأجر مع شرط بذل المنافع إذا لم يشترط عليه ضمان بدل المقبوض ، فالعارية أولى أن لا تكون مضمونة ؛ إذ ليس فيها ضمان مشروط [ ص: 174 ] بوجه . ومن جهة أخرى أن المقبوض على وجه الإجارة مقبوض لاستيفاء المنافع ولم يكن مضمونا ، فوجب أن لا تضمن العارية ؛ إذ كانت مقبوضة لاستيفاء المنافع .

وأيضا لما كانت الهبة غير مضمونة على الموهوب له ؛ لأنها مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط ضمان البدل وهي معروف وتبرع وجب أن تكون العارية كذلك ؛ إذ هي معروف وتبرع . وأيضا قد اتفق الجميع على أن العارية لو نقصت بالاستعمال لم يضمن النقصان ، فإذا كان الجزء منها غير مضمون مع حصول القبض عليه وجب أن لا يضمن الكل ؛ لأن ما تعلق ضمانه بالقبض لا يختلف فيه حكم الكل والبعض ، كالغصب والمقبوض ببيع فاسد ؛ فلما اتفق الجميع على أن الجزء الفائت بالنقصان غير مضمون وجب أن لا يضمن الجميع كالودائع وسائر الأمانات .

وقد اختلف في ألفاظ حديث صفوان بن أمية في العارية ، فذكر بعضهم فيه الضمان ولم يذكره بعضهم . وروى شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن أمية عن صفوان بن أمية عن أبيه قال : استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان أدراعا من حديد يوم حنين ، فقال له : يا محمد مضمونة فقال : مضمونة فضاع بعضها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت غرمناها لك فقال : لا ، أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله . ورواه إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن صفوان بن أمية ، قال : استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية أدراعا فضاع بعضها ، فقال : إن شئت غرمناها لك فقال : لا يا رسول الله . فوصله شريك وذكر فيه الضمان وقطعه إسرائيل ولم يذكر الضمان .

وروى قتادة عن عطاء : أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعا يوم حنين ، فقال له : أمؤداة يا رسول الله العارية ؟ فقال : نعم . وروى جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن أناس من آل عبد الله بن صفوان قال : أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو حنينا ؛ وذكر الحديث من غير ذكر ضمان . ويقال إنه ليس في رواة هذا الحديث أحفظ ولا أتقن ولا أثبت من جرير بن عبد الحميد ، ولم يذكر الضمان ، ولو تكافأت الرواة فيه حصل مضطربا .

وقد روي في أخبار أخر من طريق أبي أمامة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : العارية مؤداة .

وإن صح ذكر الضمان في حديث صفوان فإن معناه ضمان الأداء ، كما روي في بعض ألفاظ حديث صفوان أنه قال : هي مضمونة حتى أؤديها إليك ، وكما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا الفريابي قال : حدثنا قتيبة قال : حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن أبي هند : أن أول ما ضمنت العارية أن رسول [ ص: 175 ] الله صلى الله عليه وسلم قال لصفوان : أعرنا سلاحك وهي علينا ضمان حتى نأتيك بها ، فثبت بذلك أنه إنما شرط له ضمان الرد وذلك لأن صفوان كان حربيا كافرا في ذلك الوقت ، فظن أنه يأخذها على جهة استباحة ماله كسائر أموال الحربيين ، ولذلكقال له : أغصبا تأخذها يا محمد ؟ فقال : لا ، بل عارية مضمونة حتى أؤديها إليك وعارية مؤداة ؛ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأخذها على أنها عارية مؤداة وأنه ليس يأخذها على سبيل ما تؤخذ عليه أموال أهل الحرب ؛ وهو كقول القائل : أنا ضامن لحاجتك ، يعني القيام بها والسعي فيها حتى يقضيها ؛ قال الشاعر يصف ناقة :

بتلك أسلي حاجة إن ضمنتها وأبرئ هما كان في الصدر داخلا

قال أهل اللغة في قوله : " إن ضمنتها " يعني إن هممت بها وأردتها .

وأيضا فإنا نسلم للمخالف صحة الخبر بما روي فيه من الضمان ، ونقول : إنه لا دلالة فيه على موضع الخلاف وذلك لأنه قال : عارية مضمونة فجعل الأدراع التي قبضها مضمونة ، وهذا يقتضي ضمان عينها بالرد لا ضمان قيمتها ، ؛ إذ لم يقل أضمن قيمتها ؛ وغير جائز صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدلالة . وأيضا فيما ادعى المخالف إثبات ضمير في اللفظ لا دلالة عليه وهو ضمان القيمة ، ولا يجوز إثباته إلا بدلالة ؛ ويدل على أنها لم تكن مضمونة ضمان القيمة عند الهلاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فقد منها أدراعا قال لصفوان : إن شئت غرمناها لك ، فلو كان ضمان القيمة قد حصل عليه لما قال : إن شئت غرمناها لك

وهو غارم ، فدل ذلك على أن الغرم لم يجب بالهلاك وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يغرمها إذا شاء ذلك صفوان متبرعا بالغرم ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استقرض من عبد الله بن ربيعة ثلاثين ألفا في هذه الغزاة أيضا ثم أراد أن يردها إلى عبد الله أبى عبد الله أن يقبلها فقال له : " خذها فإن جزاء القرض الوفاء والحمد " ؟ فلو كان الغرم لازما فيما فقد من الأدراع لما قال : إن شئت غرمناها لك .

ويدل على أنه لم يكن ضامنا لقيمة ما فقد أنه قال : لا ، فإن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن قبل ؛ وفي ذلك دليل على أنها لم تكن مضمونة القيمة ؛ لأن ما كان مضمونا لا يختلف حكمه في الإيمان والكفر .

وقال بعض شيوخنا : إن صفوان لما كان حربيا جاز أن يشرط له ذلك ؛ إذ قد يجوز فيما بيننا وبين أهل الحرب من الشروط ما لا يجوز فيما بيننا بعضنا لبعض ألا ترى أنه يجوز أن يرتهن منهم الأحرار ولا يجوز مثله فيما بيننا ؟ وكان أبو الحسن الكرخي يأبى هذا التأويل [ ص: 176 ] ويقول : لا يصح شرط الضمان لأهل الحرب فيما ليس بمضمون ألا ترى أنه لو شرطنا لهم ضمان الودائع والمضاربات ونحوها لم يصح ؟

واحتج من قال بضمان العارية بما رواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على اليد ما أخذت حتى تؤديه ولا دلالة في هذا الحديث أيضا على موضع الخلاف ؛ لأنه إنما أوجب رد المأخوذ بعينه وليس فيه ذكر ضمان القيمة عند هلاكه ، ونحن نقول إن عليه رد العارية ، فهذا لا خلاف فيه ولا تعلق له أيضا بموضع الخلاف ؛ والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية