الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ويجوز ) ( تعليق الكفالة بالشروط ) مثل أن يقول ما بايعت فلانا فعلي أو ما ذاب لك عليه فعلي أو ما غصبك فعلي . والأصل فيه قوله تعالى { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } والإجماع منعقد على صحة [ ص: 184 ] ضمان الدرك ، ثم الأصل أنه يصح تعليقها بشرط ملائم لها مثل أن يكون شرطا لوجوب الحق كقوله إذا استحق المبيع ، أو لإمكان الاستيفاء مثل قوله إذا قدم زيد وهو مكفول عنه ، [ ص: 185 ] أو لتعذر الاستيفاء مثل قوله إذا غاب عن البلدة ، وما ذكر من الشروط في معنى ما ذكرناه ، فأما لا يصح التعليق بمجرد الشرط كقوله إن هبت الريح أو جاء المطر وكذا إذا جعل واحد منهما أجلا ، إلا أنه تصح الكفالة ويجب المال حالا لأن الكفالة لما صح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة كالطلاق والعتاق .

التالي السابق


( قوله ويجوز تعليق الكفالة بالشروط ) مثل أن يقول ما بايعت فلانا فعلي وما ذاب لك عليه ، أي ما وجب وثبت فعلي من ذوب الشحم ، لأن المعنى إن بايعته فعلي درك ذلك البيع . وإن ذاب لك عليه شيء فعلي ، وكذا ما غصبك فعلي ، وإذا صحت فعليه ما يجب بالمبايعة الأولى ، فلو بايعه مرة بعد مرة لا يلزمه ثمن المبايعة الثانية ، ذكره في المجرد عن أبي حنيفة نصا .

وفي نوادر أبي يوسف برواية ابن سماعة : يلزمه كله ، ولو رجع الكفيل عن هذا الضمان ونهاه عن المبايعة صح ، حتى لو بايع بعد ذلك لم يلزم الكفيل شيء وقيد بقوله فلانا ليصير المكفول عنه معلوما فإن جهالة المكفول عنه تمنع صحة الكفالة كجهالة المكفول في الإضافة .

ولو قال ما بايعت من الناس فعلي ضمانه فهو باطل لتفاحش الجهالة بجهالة المكفول عنه وبه ، بخلاف انفراد جهالة المكفول به فإنها حينئذ قليلة تتحمل .

والحاصل أن جهالة المكفول له تمنع صحة الكفالة مطلقا وجهالة المكفول به لا تمنعها مطلقا وجهالة المكفول عنه في التعليق والإضافة تمنع صحة الكفالة ، وفي التنجيز لا تمنع . مثال ذلك لو قال : ما ذاب لك على أحد من الناس أو ما بايعت أحدا فهو علي لا تصح لجهالة المضمون عنه في الإضافة ، وكذا لو قال ما ذاب لأحد عليك فهو علي لا تصح لجهالة المكفول له .

ولو قال ما غصبك فلان أو سرقك فعلي جاز لانتفائهما ، ومن المثل ما غصبك أهل هذه الدار فأنا له ضامن لا تصح الكفالة ، كأنه قال : ما يجب لك على واحد من الناس فعلي ، وفيه لا تصح لجهالة المكفول عنه . ومن بايع فلانا اليوم من بيع فعلي لا يلزم الكفيل شيء لجهالة المكفول له لأنه ضمن الواحد من الناس ، بخلاف ما لو قال لجماعة حاضرين ما بايعتموه فعلي يصح فأيهم بايعه لزم الكفيل لأنه ضمن لمعينين ، وحينئذ يجب كون أهل الدار في المسألة التي قبلها ليسوا معينين معلومين عند المتخاطبين وإلا فلا فرق . ومنه ما لو قال لرجلين كفلت لهذا بما له [ ص: 184 ] على فلان وهو ألف أو لهذا بما له عليه فهو باطل لجهالة المكفول له .

ولو قال لرجل كفلت بما لك على فلان أو ما لك على فلان رجل آخر جاز لأنها جهالة للمكفول عنه في غير تعليق ويكون الخيار للكفيل فيحتاج إلى فرقين فرق بين المكفول له . وعنه في التنجيز حيث يصح مع جهالة المكفول عنه دون المكفول له . وفرق بين المكفول عنه في التنجيز والإضافة حيث يصح في التنجيز دون الإضافة . أما الأول فما ذكر في الذخيرة أن الكفالة في حق الطالب بمنزلة البيع والمكفول له كالبائع لأنه تملك ما في ذمة المكفول عنه من الكفيل فلا بد من التعيين ولا يصح بدون قبول المشتري وقبوله يستلزم تعيينه فكانت جهالة الطالب مانعة جوازها كجهالة المشتري مانعة للبيع ، والكفالة في حق المطلوب بمنزلة الطلاق والعتاق حيث صح من غير قبوله وأمره فلا تمنع جهالته جوازها كما لا تمنع جهالة المعتق جواز العتق .

وأما الفرق بين جهالة المكفول عنه في الإرسال والتعليق أن القياس يأبى جواز إضافة الكفالة لأنها تمليك في حق الطالب . وإنما جوز استحسانا للتعامل والتعامل فيما إذا كان المكفول عنه معلوما فإذا كان مجهولا يبقى على القياس . وحاصل هذا أن المبطل هو الإضافة لا جهالة المكفول عنه . إذا عرف هذا جئنا إلى مسألة الكتاب ، فاستدل المصنف وأكثر الأصحاب بقوله تعالى { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } ونقل عن أبي بكر الجصاص تضعيف الاستدلال به لجواز أن يكون لبيان العمالة لا الكفالة . وكذا قال أصحاب الشافعي لأن هذا القائل ضامن عن نفسه وهذا حال المستأجر ; لأنه ضامن للأجرة عن نفسه بحكم الإجارة لا الكفالة ، وضمان العمالة على هذا الوجه جائز كمن أبق عبده فقال من جاء به فله كذا . والدليل على أنه ليس من باب الكفالة بل هو العمالة أن المكفول له في الآية مجهول ولا كفالة مع جهالته إلا في مسألة واحدة ستأتي .

وعامة المشايخ قالوا : الاستدلال به صحيح ، فإن الزعيم حقيقة الكفيل ، والمؤذن إنما نادى العير عن غيره وهو الملك ، فإن المعنى الملك يقول لكم لمن جاء به حمل بعير ، لأنه إنما نادى بأمره ثم كفل عن الملك بالجعل المذكور لا عن نفسه ، إلا أن فيه جهالة المكفول له ، فقد اشتملت على أمرين : جواز الكفالة مع جهالة المكفول له ، وجوازها مضافة .

وقد علم انتساخ الأول بدلالة الإجماع على منعها مع جهالة المكفول له وهو لا يستلزم نسخ الآخر كما قلنا بجواز الكفالة عن الميت المفلس وبطلانها مع جهالة المكفول له وغيبته لحديث { أبي قتادة في قصة الميت المديون بدرهمين فقال علي هما علي ، فصلى عليه الصلاة والسلام عليه } فدل على جواز الأمرين ثم قام الدليل على انتساخ أحدهما وهو جوازها مع غيبة المكفول له ولم يقم على الآخر وهو الكفالة عن الميت المفلس ، ولو لم يتم هذا كفى ما تقدم من المعنى فيها ومن الإجماع على صحة ضمان الدرك .

ولما كان إضافة الكفالة على خلاف القياس لما ذكرنا من شبهه بالبيع إلى آخر ما تقدم اقتصر على ما يناسب مورد النص وهو أن يكون شرطا ملائما ، وملاءمة الشرط بأحد ثلاثة أمور : أحدها أن يكون سببا للزوم الحق وهو الذي عبر عنه المصنف ( بأن يكون شرطا لوجوب الحق كقوله إذا استحق المبيع ) فإن استحقاقه سبب لوجوب الثمن على البائع للمشتري ، ومن هذا القبيل ما في الآية فإن الكفالة بالجعل معلقة بسبب وجوبه وهو المجيء بصاع الملك فإنه سبب وجوب الجعل .

الثاني ( أن يكون شرطا لإمكان الاستيفاء مثل قوله إذا قدم فلان وهو مكفول عنه ) فإن قدومه سبب موصل للاستيفاء منه . الثالث ( أن يكون [ ص: 185 ] سببا لتعذر الاستيفاء مثل إن غاب عن البلد ) أو هرب أو مات ولم يدع شيئا . ومن الصور المروية عن محمد رحمه الله تعالى ضمنت مالك على فلان إن توي وإن حل مالك عليه ولم يوافك به .

وفي الخلاصة نقلا عن الأصل قال للمودع : إن أتلف المودع وديعتك ، أو جحدك فأنا ضامن لك صح ، وكذا إذا قال إن قتلك ابنك فلان خطأ فأنا ضامن للدية صح ، بخلاف إن أكلك سبع ونحوه مما ليس ملائما كإن دخلت الدار أو قدم فلان وهو غير مكفول عنه أو هبت الريح أو جاء المطر لا يصح هذا التعليق ( وكذا إذا جعل واحد منهما أجلا ) يعني من هبوب الريح ومجيء المطر كأن يقول : كفلت به أو بمالك عليه إلى أن تهب الريح أو إلى أن يجيء المطر لا يصح ، إلا أن الكفالة تثبت حالة ويبطل الأجل ، بخلاف ما لو علقها بهما نحو إذا هبت الريح فقد كفلت لك بمالك عليه فإن الكفالة باطلة أصلا .

ولو جعل الأجل الحصاد أو الدياس أو المهرجان أو العطاء أو صوم النصارى جازت الكفالة والتأجيل . فالحاصل أن الشرط الغير الملائم لا تصح معه الكفالة أصلا ومع الأجل الغير الملائم تصح حالة ويبطل الأجل لكن تعليل المصنف لهذا بقوله ( لأن الكفالة لما صح تعليقها بالشرط لا تبطل بالشروط الفاسدة كالطلاق والعتاق ) [ ص: 186 ] يقتضي أن في التعليق بغير الملائم تصح الكفالة حالة ، وإنما يبطل الشرط والمصرح به في المبسوط وفتاوى قاضي خان أن الكفالة باطلة فتصحيحه أن يحمل لفظ تعليقها على معنى تأجيلها بجامع أن في كل منهما عدم ثبوت الحكم في الحال ، وقلد المصنف في هذا الاستعمال لفظ المبسوط فإنه ذكر التعليق وأراد التأجيل . هذا وظاهر شرح الأتقاني المشي على ظاهر اللفظ ، فإنه قال فيه : الشرط إذا كان ملائما جاز تعليق الكفالة به ، ومثل بقوله : إذا استحق المبيع فأنا ضامن إلى أن قال : وإن كان بخلاف ذلك كهبوب الريح ومجيء المطر لا يصح التعليق ويبطل الشرط ولكن تنعقد الكفالة ويجب المال ; لأن كل ما جاز تعليقه بالشرط لا يفسد بالشروط الفاسدة أصله الطلاق والعتاق .

وفي الخلاصة : كفل بمال على أن يجعل له الطالب جعلا . فإن لم يكن مشروطا في الكفالة فالشرط باطل ، وإن كان مشروطا فيها فالكفالة باطلة انتهى . وهذا يفيد أنها تبطل بالشروط الفاسدة إن كانت في صلبها .




الخدمات العلمية