الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في انشقاق القمر

                                                                                                          2182 حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر قال انفلق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا قال أبو عيسى وفي الباب عن ابن مسعود وأنس وجبير بن مطعم وهذا حديث حسن صحيح

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          ( باب ما جاء في انشقاق القمر ) أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المعجزة له .

                                                                                                          قوله : ( انفلق القمر ) أي انشق وفي حديث ابن مسعود عند البخاري في التفسير : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ، وفي حديث أنس عند البخاري في باب انشقاق القمر أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما ، قال الحافظ قوله شقتين بكسر المعجمة أي نصفين ، وقوله حتى رأوا حراء أي جبل حراء بينهما ، أي بين الفرقتين ، وجبل حراء على يسار السائر من مكة إلى منى ، وقال وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس بيان صورة السؤال وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه حمل الحديث عن ابن مسعود ، فأخرج أبو نعيم في الدلائل من وجه ضعيف عن ابن عباس قال : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كنت [ ص: 342 ] صادقا فشق لنا القمر فرقتين فسأل ربه فانشق ( اشهدوا ) أي على نبوتي أو معجزتي من الشهادة وقيل معناه احضروا وانظروا من الشهود .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن ابن مسعود وأنس وجبير بن مطعم ) أخرج الترمذي أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم في تفسير سورة القمر ، قال الحافظ وقد ورد انشقاق القمر أيضا من حديث علي وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم ، فأما أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين ، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد ، وأما أنس فكان ابن أربع أو خمس بالمدينة ، وأما غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك ، وممن صرح برؤيته ذلك ابن مسعود .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه مسلم .

                                                                                                          اعلم أن أحاديث الباب صحيحة صريحة في ثبوت معجزة انشقاق القمر ، قال ابن عبد البر : قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة ، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا ، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر ، وقد يطلع على قوم قبل طلوعه على آخرين ، وأيضا فإن زمن الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك ، فجاءت السفار وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك ، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبا يكونون سائرين في ضوء القمر ، ولا يخفى عليهم ذلك ، وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن : أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ، ولا إنكار للعقل فيه ; لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء ، كما يكوره يوم البعث ويفنيه ، وأما قول بعضهم : لو وقع لجاء متواترا واشترك أهل الأرض في معرفته ، ولما اختص بها أهل مكة ، فجوابه : أن ذلك وقع ليلا وأكثر الناس نيام ، والأبواب مغلقة ، وقل من يراصد السماء إلا النادر ، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكشف القمر وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد ، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها ، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ ، كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض ، كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم ، وقال الخطابي : انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء ، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع ، فليس مما يطمع في [ ص: 343 ] الوصول إليه بحيلة فلذلك صار البرهان به أظهر ، وقد أنكر ذلك بعضهم ، فقال : لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره على عوام الناس لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة ، فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ، ونقل ما لم يعهد فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم إذ لا يجوز إطباقهم على تركه ، وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره .

                                                                                                          والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاص من الناس فوقع ليلا لأن القمر لا سلطان له بالنهار ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياما ومستكنين بالأبنية ، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولا فما يلهيه من سمر وغيره ، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه ، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس ، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه ، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر ، وقال الحافظ : ذهب بعض أهل العلم من القدماء أن المراد بقوله : انشق القمر أي سينشق كما قال تعالى أتى أمر الله أي سيأتي ، والنكتة في ذلك إرادة المبالغة في تحقق وقوع ذلك ، فنزل منزلة الواقع ، والذي ذهب إليه الجمهور أصح كما جزم به ابن مسعود وحذيفة وغيرهما ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله : ( وانشق القمر ) وقوع انشقاقه لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة وإذا تبين أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبين وقوع الانشقاق وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر انتهى ، وقال الرازي في تفسيره الكبير بعد ما أثبت هذه المعجزة ما لفظه : وأما المؤرخون تركوه لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر ، وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم ، والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه ، وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام ، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السماوات وذكرناه مرارا فلا نعيده انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية