الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما العمرة فإنها تجوز في أشهر الحج وغيرها لما روت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفي شوال } وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { عمرة في رمضان تعدل حجة } ولا يكره فعل عمرتين وأكثر في سنة ، لما ذكرناه من حديث عائشة رضي الله عنها )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عباس رواه البخاري ومسلم .

                                      وروت أم معقل الصحابية رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { عمرة في رمضان تعدل حجة } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ، قال الترمذي : حديث حسن ، قال : وفي الباب بغير عمرة في رمضان عن ابن عباس [ ص: 138 ] وجابر وأنس بن مالك وأبي هريرة ووهب بن خنبش قال : ويقال هرم بن خنبش رضي الله عنهما قال الترمذي : قال إسحاق - يعني ابن راهويه : معنى هذا الحديث مثل " قراءة { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن " .

                                      ( وأما ) حديث عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتمر مرتين في ذي القعدة وفي شوال } فصحيح رواه أبو داود في سننه بإسناده الصحيح ، وقد ثبت فعل العمرة في أشهر الحج في الأحاديث الصحيحة من طرق كثيرة ( منها ) حديث أنس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته } رواه البخاري ومسلم . وعن ابن عمر قال : { اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب ، فبلغ ذلك عائشة فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة قط إلا وهو شاهد ، وما اعتمر قط في رجب } رواه البخاري ومسلم .

                                      وعن البراء { أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة } رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وفي الباب عن ابن عباس وغيره أحاديث كثيرة . أما الأحكام فقال الشافعي والأصحاب : جميع السنة وقت للعمرة فيجوز الإحرام بها في كل وقت من السنة ، ولا يكره في وقت من الأوقات ، وسواء أشهر الحج وغيرها في جوازها فيها من غير كراهة ، ولا يكره عمرتان وثلاث وأكثر في السنة الواحدة ، ولا في اليوم الواحد ، بل يستحب الإكثار منها بلا خلاف عندنا ، قال أصحابنا : ويستحب الاعتمار في أشهر الحج وفي رمضان للأحاديث السابقة ، قال المتولي وغيره : والعمرة في رمضان أفضل منها في باقي السنة للحديث السابق ، قال أصحابنا : وقد يمتنع الإحرام بالعمرة في بعض السنة لعارض لا بسبب الوقت ، وذلك كالمحرم بالحج لا يجوز له الإحرام بالعمرة بعد الشروع في التحلل من الحج بلا خلاف وكذا لا يصح إحرامه بها قبل الشروع في التحلل على المذهب ، كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى في إحرام القارن .



                                      قال أصحابنا : لو تحلل من الحج التحللين وأقام بمنى للرمي والمبيت ، فأحرم [ ص: 139 ] بالعمرة لم ينعقد إحرامه بلا خلاف نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب ، نص عليه الأصحاب ; لأنه عاجز عن التشاغل بها لوجوب ملازمة إتمام الحج بالرمي والمبيت قال أصحابنا : ولا يلزمه بذلك شيء .



                                      ( فأما ) إذا نفر النفر الأول وهو بعد الرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق ، فأحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق ليلا أو نهارا فعمرته صحيحة بلا خلاف قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق وآخرون من أصحابنا : والفرق بين هاتين الصورتين أن المقيم بمنى يوم النفر وإن كان خاليا من علائق الإحرام بالتحللين ، إلا أنه مقيم على نسك مشتغل بإتمامه وهو الرمي والمبيت ، وهما من تمام الحج ، فلا تنعقد عمرته ما لم يكمل حجه بخلاف من نفر فإنه فرغ من الحج وصار كغير الحاج ، قال أبو محمد : ولا يتصور حين يحرم بالعمرة في وقت ، ولا تنعقد عمرته إلا في هذه المسألة وقد يرد على هذا ما إذا أحرم بالعمرة في حال جماعه المرأة ، فإنه حلال ولا ينعقد إحرامه على أصح الأوجه ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في جماع المحرم ، ويمكن أن يجاب عنه بأن عدم انعقاد العمرة هنا لعدم أهلية المحرم لا لعارض ، فهو كالكافر وغيره ، ممن لا يصح إحرامه لعدم أهليته ، ولا شك أن الكافر ونحوه لا يرد على قول الشيخ أبي محمد ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في وقت العمرة . قد ذكرنا أن مذهبنا جوازها في جميع السنة ، ولا تكره في شيء منها ، وبهذا قال مالك وأحمد وداود ، ونقله الماوردي عن جمهور الفقهاء ، وقال أبو حنيفة ، تكره العمرة ، واحتج أصحابنا بأن الأصل عدم الكراهة حتى يثبت النهي الشرعي ، ولم يثبت هذا الخبر ; ولأنه يجوز القران في يوم عرفة بلا كراهة ، فلا يكره إفراد العمرة فيه كما في جميع السنة ; ولأن كل وقت لا يكره فيه استدامة العمرة لا يكره فيه إنشاؤها كباقي السنة .

                                      ( وأما ) قول عائشة ( فأجاب ) أصحابنا عنه بأجوبة أجودها أنه باطل لا يعرف عنها ، ولم يذكره عنها أحد ممن يعتمد ، ولو صح لكان قول [ ص: 140 ] صحابي لم يشتهر ، فلا حجة فيه على الصحيح ، ولو صح واشتهر لكان محمولا على من كان متلبسا بالحج ( وأما ) قولهم : إنها أيام الحج فكرهت فيها العمرة ، فدعوى باطلة لا شبهة لها .

                                      ( فرع ) : في مذاهبهم في تكرار العمرة في السنة . مذهبنا أنه لا يكره ذلك بل يستحب ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء من السلف والخلف ، وممن حكاه عن الجمهور الماوردي والسرخسي والعبدري ، وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وغيرهم رضي الله عنهما ، وقال الحسن البصري وابن سيرين ومالك : تكره العمرة في السنة أكثر من مرة ; لأنها عبادة تشتمل على الطواف والسعي فلا تفعل في السنة إلا مرة كالحج ، واحتج الشافعي والأصحاب وابن المنذر وخلائق بما ثبت في الحديث الصحيح { أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بعمرة عام حجة الوداع ، فحاضت ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بحج ففعلت ، وصارت قارنة ووقفت المواقف ، فلما طهرت طافت وسعت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم قد حللت من حجك وعمرتك ، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها عمرة أخرى ، فأذن لها فاعتمرت من التنعيم عمرة أخرى } رواه البخاري ومسلم مطولا ، ونقلته مختصرا .

                                      قال الشافعي : وكانت عمرتها في ذي الحجة ، ثم أعمرها العمرة الأخرى في ذي الحجة ، فكان لها عمرتان في ذي الحجة . وعن عائشة أيضا " أنها اعتمرت في سنة مرتين أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم " وفي رواية ثلاث عمر ، وعن ابن عمر أنه اعتمر أعواما في عهد ابن الزبير مرتين في كل عام ، ذكر هذه الآثار كلها الشافعي ، ثم البيهقي بأسانيدهما .

                                      ( وأما ) الحديث الذي ذكره المصنف فليس فيه دلالة ظاهرة ; لأنها لم تقل : اعتمر في ذي القعدة وشوال من سنة واحدة واحتج أصحابنا أيضا في المسألة بحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما } رواه البخاري ومسلم ، وسبق ذكره في أول [ ص: 141 ] كتاب الحج ، ولكن ليست دلالته ظاهرة ، وإن كان البيهقي وغيره قد احتجوا به ، وصدر به البيهقي الباب ، فقال بعض أصحابنا : وجه دلالته أنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين كون العمرتين في سنة أو سنتين ، وهذا تعليق ضعيف . واحتج أيضا بالقياس على الصلاة فقالوا : عبادة غير مؤقتة ، فلم يكره تكرارها في السنة كالصلاة ، قال الشافعي في المختصر : من قال : لا يعتمر في السنة إلا مرة مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني حديث عائشة السابق ( فإن قيل ) قد ثبت في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : { ارفضي عمرتك وامتشطي وأهلي بالحج } ففعلت ، ثم اعتمرت ، وهذا ظاهره أنه لم يحصل لها إلا عمرة واحدة ( فالجواب ) أنها لم ترفضها ، يعني الخروج منها والإعراض عنها ; لأن العمرة والحج لا يخرج منهما بنية الخروج بلا خلاف وإنما رفضها رفض أعمالها مستقلة ; لأنها أحرمت بعدها بالحج ، فصارت قارنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ارفضيها " أي اتركي أعمالها المستقلة لاندراجها في أفعال الحج ( وأما ) امتشاطها ، فلا دلالة فيه . قال القاضي أبو الطيب وغيره ; لأن المحرم يجوز له عندنا الامتشاط ( وأما ) الجواب عن احتجاج مالك بالقياس على الحج ، فهو أن الحج مؤقت لا يتصور تكراره في السنة والعمرة غير مؤقتة ، فتصور تكرارها كالصلاة والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية