الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  8 1 - حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الحديث هو ترجمة الباب، وقد ذكرنا أن الصحيح أنه ليس بينه وبين قوله باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " بني الإسلام على خمس " باب آخر، فافهم.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: أدخل البخاري هذا الحديث في هذا الباب لينبئ أن الإسلام يطلق على الأفعال، وأن الإسلام والإيمان قد يكون بمعنى واحد.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم أربعة:

                                                                                                                                                                                  الأول: عبيد الله بن موسى بن باذام بالباء الموحدة والذال المعجمة، وهو لفظ فارسي، ومعناه اللوز العبسي بفتح العين المهملة وتسكين الباء الموحدة، مولاهم الكوفي الثقة، سمع الأعمش وخلقا من التابعين، وعنه البخاري وأحمد وغيرهما. وروى مسلم: وأصحاب السنن الأربعة عن رجل عنه وكان عالما بالقرآن رأسا، فيه توفي بالإسكندرية سنة ثلاث عشرة أو أربع عشرة ومائتين.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن قتيبة في المعارف: كان عبيد الله يسمع ويروي أحاديث منكرة، فضعف بذلك عند كثير من الناس ".

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: وقع في الصحيحين وغيرهما من كتب أئمة الحديث الاحتجاج بكثير من المبتدعة غير الدعاة إلى بدعتهم، ولم تزل السلف والخلف على قبول الرواية منهم والاستدلال بها والسماع منهم وأسماعهم من غير إنكار.

                                                                                                                                                                                  الثاني: حنظلة بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي المكي القرشي الثقة الحجة، سمع عطاء وغيره من التابعين. وعنه الثوري وغيره من الأعلام، مات سنة إحدى وخمسين ومائة، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  وقد قال قطب الدين إلا ابن ماجه وليس بصحيح، بل روى له ابن ماجه أيضا كما نبه عليه المزي.

                                                                                                                                                                                  الثالث: عكرمة بن خالد بن العاصي بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي المكي الثقة الجليل، سمع ابن عمر وابن عباس وغيرهما، روى عنه عمرو بن دينار وغيره من التابعين، مات بمكة بعد عطاء، ومات عطاء سنة أربع عشرة أو خمس عشرة ومائة، والعاصي جده هو أخو أبي جهل، قتله عمر رضي الله عنه ببدر كافرا وهو خال عمر على قول.

                                                                                                                                                                                  وفي الصحابة: عكرمة ثلاثة لا رابع لهم: ابن أبي جهل المخزومي، وابن عامر العبدري، وابن عبيد الخولاني. وليس في الصحيحين من اسمه عكرمة إلا هذا. وعكرمة بن عبد الرحمن وعكرمة مولى ابن عباس، وروى مسلم للأخير مقرونا وتكلم فيه لرأيه، وعكرمة بن عمار أخرج له مسلم في الأصول واستشهد به البخاري في كتاب البر والصلة. قلت: وفي طبقة عكرمة بن خالد بن العاصي عكرمة بن خالد بن سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي، وهو ضعيف ولم يخرج له البخاري وهو لم يرو عن ابن عمر، وينبغي التنبه لهذا فإنه موضع الاشتباه.

                                                                                                                                                                                  الرابع: عبد الله بن عمر. وقد ذكر عن قريب.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ومنها أن إسناده كلهم مكيون إلا عبيد الله فإنه كوفي، وكله على شرط الستة إلا عكرمة بن خالد، فإن ابن ماجه لم يخرج له، ومنها أنه من رباعيات البخاري، ولمسلم من الخماسيات; فعلا البخاري برجل.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه)

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في التفسير، وقال فيه، وزاد: عثمان عن ابن وهب، أخبرني فلان وحيوة بن شريح، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نافع عن ابن عمر.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم في الإيمان، عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن حنظلة به. وعن ابن معاذ، عن أبيه، عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن جده.

                                                                                                                                                                                  وعن ابن نمير، عن أبي خالد الأحمر، عن سعد بن طارق، عن سعد بن عبيد، عن ابن عمر. وعن سهل بن عثمان، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن سعد بن طارق به. فوقع لمسلم من جميع طرقه خماسيا وللبخاري رباعيا كما ذكرنا، وزاد في مسلم في روايته عن [ ص: 119 ] حنظلة، قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوسا أن رجلا قال لعبد الله بن عمر: ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت.. فذكر الحديث، وقال البيهقي: اسم الرجل السائل حكيم.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات) قوله " بني " من بنى يبني بناء، يقال: بنى فلان بيتا من البنيان، ويقال: بنيته بناء وبنى بكسر الباء وبنى بالضم وبنية.

                                                                                                                                                                                  قوله " وإقام الصلاة " فعلة من صلى كالزكاة من زكى، قال الزمخشري: وكتبتها بالواو على لفظ المفخم، وحقيقة صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعل ذلك، قلت: الصلوان تثنية الصلا، وهو ما عن يمين الذنب وشماله، هذا أحد معاني الصلاة في اللغة، والثانية الدعاء.

                                                                                                                                                                                  قال الأعشى:

                                                                                                                                                                                  وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم

                                                                                                                                                                                  والثالثة من صليت العصا بالنار إذا لينتها وقومتها; فالمصلي كأنه يسعى في تعديلها وإقامتها، والرابعة من صليت الرجل النار إذا أدخلته النار أو من جعلته يصلاها أي يلازمها، فالمصلي يدخل الصلاة ويلازمها.

                                                                                                                                                                                  قوله " وإيتاء الزكاة " أي إعطائها من آتاه إيتاء، وأما أتيته أتيا وإتيانا، فمعناه جئته، والزكاة في اللغة عبارة عن الطهارة، قال تعالى: قد أفلح من تزكى أي تطهر، وعن النماء يقال: زكا الزرع إذا نما.

                                                                                                                                                                                  قال الجوهري: زكا الزرع يزكو زكاء ممدودا أي نما، وهذا الأمر لا يزكو بفلان أي لا يليق به، ويقال: زكا الرجل يزكو زكوا إذا تنعم، وكان في خصب وزكى ماله تزكية إذا أدى عنه زكاته، وتزكى أي تصدق وزكى نفسه تزكية مدحها، وفي الشريعة: عبارة عن إيتاء جزء من النصاب الحولي إلى فقير غير هاشمي، ويراعى فيها معانيها اللغوية، وذلك أن المال يطهر بها أو يطهره صاحبه أو هي سبب نمائه وزيادته.

                                                                                                                                                                                  قوله " والحج " في اللغة القصد، وأصله من قولك: حججت فلانا أحجه حجا إذا عدت إليه مرة بعد أخرى، فقيل: حج البيت لأن الناس يأتونه في كل سنة، ومنه قول المخبل السعدي:


                                                                                                                                                                                  وأشهد من عوف حؤولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا

                                                                                                                                                                                  يقول: يأتونه مرة بعد أخرى لسؤدده، والسب بكسر السين المهملة وتشديد الباء الموحدة شقة من كتان رقيقة، وأراد به العمامة هاهنا.

                                                                                                                                                                                  قال الصغاني: هذا الأصل ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة حرسها الله تعالى للنسك، تقول: حججت البيت أحجه حجا فأنا حاج، ويجمع على حجج، مثال: بازل وبزل. والحجج بالكسر الاسم، والحجة المرة الواحدة. وهذا من الشواذ لأن القياس بالفتح، وفي الشريعة هو قصد مخصوص في وقت مخصوص إلى مكان مخصوص.

                                                                                                                                                                                  قوله " وصوم رمضان " الصوم في اللغة: الإمساك عن الطعام، وقد صام الرجل صوما وصياما، وقوم صوم بالتشديد وصيم أيضا، ورجل صومان أي صائم، وصام الفرس صوما أي قام على غير اعتلاف.

                                                                                                                                                                                  قال النابغة:

                                                                                                                                                                                  خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

                                                                                                                                                                                  وصام النهار صوما إذا قام قائم الظهيرة واعتدل، والصوم ركود الريح والصوم السكوت; قال تعالى: إني نذرت للرحمن صوما قال ابن عباس: صمتا، وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم، والصوم ذرق النعامة والصوم البيعة والصوم شجر في لغة هذيل. وفي الشريعة: إمساك عن المفطرات الثلاث نهارا مع النية وتفسير رمضان قد مر مرة.

                                                                                                                                                                                  (بيان الصرف)

                                                                                                                                                                                  قوله " بني " فعل ماض مجهول، قوله " وإقام الصلاة " أصله إقوام لأنه من أقام يقيم، حذفت الواو فصار إقاما، ولكن القاعدة أن يعوض عنها التاء فيقال إقامة، وقال أهل الصرف: لزم الحذف والتعويض في نحو إجارة واستجارة، فإن قلت: فلم لم يعوض هاهنا؟ قلت: المراد من التعويض هو أن يكون بالتاء وغيرها نحو الإضافة، فإن المضاف إليه هاهنا عوض عن المحذوف، وفي التنزيل: وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة

                                                                                                                                                                                  قوله " وإيتاء " من آتى بالمد.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب)

                                                                                                                                                                                  قوله " الإسلام " مرفوع لإسناد بني إليه، وقد ناب عن الفاعل. وقوله " على " يتعلق بقوله بني، قوله " خمس " أي خمس دعائم، وصرح به عبد الرزاق في روايته أو قواعد أو خصال ويروى خمسة. وهكذا رواية مسلم والتقدير خمسة أشياء أو أركان أو أصول، ويقال: إنما حذف الهاء لكون الأشياء لم تذكر; كقوله تعالى يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا أي عشرة أشياء. وكقوله عليه الصلاة والسلام " من صام رمضان فأتبعه ستا " ونحو ذلك، قلت: ذكر النحاة أن أسماء العدد إنما يكون تذكيرها بالتاء وتأنيثها بسقوط التاء إذا كان المميز مذكورا، أما إذا لم يذكر فيجوز الأمر أن قوله [ ص: 120 ] " شهادة " مجرور لأنه بدل من قوله خمس بدل الكل من الكل، ويجوز رفعه على أن يكون خبر مبتدأ محذوف; أي وهي شهادة أن لا إله إلا الله، ويجوز نصبه على تقدير: أعني شهادة أن لا إله إلا الله.

                                                                                                                                                                                  قوله " أن " بالفتح مخففة من المثقلة، ولهذا عطف عليه وأن محمدا رسول الله.

                                                                                                                                                                                  قوله " وإقام " بالجر عطف على شهادة أن لا إله إلا الله وما بعده عطف عليه.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني والبيان)

                                                                                                                                                                                  قوله " بني " إنما طوى ذكر الفاعل لشهرته، وفيه الاستعارة بالكناية لأنه شبه الإسلام بمبنى له دعائم فذكر المشبه وطوى ذكر المشبه به وذكر ما هو من خواص المشبه به وهو البناء، ويسمى هذا استعارة ترشيحية، ويجوز أن يكون استعارة تمثيلية بأن تمثل حالة الإسلام مع أركانه الخمسة بحالة خباء أقيمت على خمسة أعمدة وقطبها الذي تدور عليه الأركان هو شهادة أن لا إله إلا الله وبقية شعب الإيمان كالأوتاد للخباء.

                                                                                                                                                                                  ويجوز أن تكون الاستعارة تبعية بأن تقدر الاستعارة في بني والقرينة الإسلام، شبه ثبات الإسلام واستقامته على هذه الأركان ببناء الخباء على الأعمدة الخمسة ثم تسري الاستعارة من المصدر إلى الفعل.

                                                                                                                                                                                  وقد علمت أن الاستعارة التبعية تقع أولا في المصادر ومتعلقات معاني الحروف ثم تسري في الأفعال والصفات والحروف.

                                                                                                                                                                                  والأظهر أن تكون استعارة مكنية بأن تكون الاستعارة في الإسلام والقرينة بني على التخييل بأن شبه الإسلام بالبيت ثم خيل كأنه بيت على المبالغة، ثم أطلق الإسلام على ذلك المخيل، ثم خيل له ما يلازم البيت المشبه به من البناء، ثم أثبت له ما هو لازم البيت من البناء على الاستعارة التخييلية، ثم نسب إليه ليكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة.

                                                                                                                                                                                  قوله " وإقام الصلاة " كناية عن الإتيان بها بشروطها وأركانها.

                                                                                                                                                                                  قوله " وإيتاء الزكاة " فيه شيئان أحدهما إطلاق الزكاة الذي هو في الأصل مصدر أو اسم مصدر على المال المخرج للمستحق، والآخر حذف أحد المفعولين للعلم به; لأن الإيتاء متعد إلى مفعولين، والتقدير إيتاء الزكاة مستحقيها.

                                                                                                                                                                                  قوله " والحج " فيه حذف أيضا أي وحج البيت والألف واللام فيه بدل من المضاف إليه.

                                                                                                                                                                                  قوله " وصوم رمضان " فيه حذف أيضا أي وصوم شهر رمضان، فإن قلت: ما الإضافة فيهما؟ قلت: إضافة الحكم إلى سببه لأن سبب الحج البيت، ولهذا لا يتكرر لعدم تكرر البيت والشهر يتكرر فيتكرر الصوم.

                                                                                                                                                                                  (بيان استنباط الأحكام)

                                                                                                                                                                                  وهو على وجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: يفهم من ظاهر الحديث أن الشخص لا يكون مسلما عند ترك شيء منها لكن الإجماع منعقد على أن العبد لا يكفر بترك شيء منها، وقتل تارك الصلاة عند الشافعي وأحمد إنما هو حدا لا كفرا، وإن كان روي عن أحمد وبعض المالكية كفرا.

                                                                                                                                                                                  وقوله عليه السلام " من ترك صلاة متعمدا فقد كفر " محمول على الزجر والوعيد أو مؤول; أي إذا كان مستحلا أو المراد كفران النعمة.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن هذه الأشياء الخمسة من فروض الأعيان لا تسقط بإقامة البعض عن الباقين.

                                                                                                                                                                                  الثالث: فيه جواز إطلاق رمضان من غير ذكر شهر خلافا لمن منع ذلك على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  (الأسئلة والأجوبة)

                                                                                                                                                                                  الأول: ما قيل: ما وجه الحصر في هذه الخمسة؟ وأجيب بأن العبادة إما قولية وهي الشهادة أو غير قولية فهي إما تركي وهو الصوم أو فعلي، وهو إما بدني وهو الصلاة أو مالي وهو الزكاة أو مركب منهما وهو الحج.

                                                                                                                                                                                  الثاني: ما قيل: ما وجه الترتيب بينها؟ وأجيب بأن الواو لا تدل على الترتيب، ولكن الحكمة في الذكر أن الإيمان أصل للعبادات فتعين تقديمه، ثم الصلاة لأنها عماد الدين، ثم الزكاة لأنها قرينة الصلاة، ثم الحج للتغليظات الواردة فيه ونحوها، فبالضرورة يقع الصوم آخرا.

                                                                                                                                                                                  الثالث: ما قيل: الإسلام هو الكلمة فقط; ولهذا يحكم بإسلام من تلفظ بها فلم ذكر الأخوات معها؟ وأجيب تعظيما لإخوانها.

                                                                                                                                                                                  وقال النووي: حكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضيف إليهما الصلاة ونحوها لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم إسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله.

                                                                                                                                                                                  الرابع: ما قيل: فعلى هذا التقدير الإسلام هو هذه الخمسة، والمبني لا بد أن يكون غير المبني عليه، وأجيب بأن الإسلام عبارة عن المجموع، والمجموع غير كل واحد من أركانه.

                                                                                                                                                                                  الخامس: ما قيل: الأربعة الأخيرة مبنية على الشهادة; إذ لا يصح شيء منها إلا بعد الكلمة; فالأربعة مبنية والشهادة مبني عليها; فلا يجوز إدخالها في سلك واحد، وأجيب بأنه لا محذور في أن يبنى أمر على أمر، ثم الأمر أن يكون عليهما شيء آخر، ويقال: لا نسلم أن الأربعة مبنية على الكلمة بل صحتها موقوفة عليها; وذلك غير معنى بناء الإسلام على الخمس، وقال التيمي: قوله " بني الإسلام على خمس " كان ظاهره أن الإسلام مبني على [ ص: 121 ] هذه وإنما هذه الأشياء مبنية على الإسلام; لأن الرجل ما لم يشهد لا يخاطب بهذه الأشياء الأربعة ولو قالها فإنا نحكم في الوقت بإسلامه، ثم إذا أنكر حكما من هذه الأحكام المذكورة المبنية على الإسلام حكمنا ببطلان إسلامه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد بيان أن الإسلام لا يتم إلا بهذه الأشياء ووجودها معه جعله مبنيا عليها ولهذا المعنى سوى بينها وبين الشهادة وإن كانت هي الإسلام بعينه.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: حاصل كلامه أن المقصود من الحديث بيان كمال الإسلام وتمامه; فلذلك ذكر هذه الأمور مع الشهادة لا نفس الإسلام وهو حسن، لكن قوله ثم إذا أنكر حكما من هذه حكمنا ببطلان إسلامه ليس من البحث; إذ البحث في فعل هذه الأمور وتركها لا في إنكارها، وكيف وإنكار كل حكم من أحكام الإسلام موجب للكفر فلا معنى للتخصيص بهذه الأربعة؟ قلت: استدراك الكرماني لا وجه له فافهم.

                                                                                                                                                                                  السادس: ما قيل لم لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه سؤال جبريل عليه السلام؟ أجيب بأن المراد بالشهادة تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به; فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات.

                                                                                                                                                                                  السابع: ما قيل لم لم يذكر فيه الجهاد؟ أجيب بأنه لم يكن فرض، وقيل: لأنه من فروض الكفايات وتلك فرائض الأعيان.

                                                                                                                                                                                  قال الداودي: لما فتحت مكة سقط فرض الجهاد على من بعد من الكفار وهو فرض على من يليهم، وكان أولا فرضا على الأعيان. وقيل: هو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما والثوري وابن شبرمة إلا أن ينزل العدو فيأمر الإمام بالجهاد.

                                                                                                                                                                                  وجاء في البخاري في هذا الحديث في التفسير " أن رجلا قال لابن عمر: ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد؟ "، وفي بعضها في أوله " أن رجلا قال لابن عمر: ألا تغزو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بني الإسلام على خمس.. " الحديث; فهذا يدل على أن ابن عمر كان لا يرى فرضيته إما مطلقا كما نقل عنه أو في ذلك الوقت، وجاء هنا: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله.. "، وجاء في بعض طرقه " على أن يوحد الله "، وفي أخرى: " على أن يعبد الله ويكفر بما دونه " بدل الشهادة، قال بعضهم: جاءت الأولى على نقل اللفظ وما عداها على المعنى.

                                                                                                                                                                                  وقد اختلف في هذه المسألة وهو جواز نقل الحديث بالمعنى من العالم بمواقع الألفاظ وتركيبها، وأما من لا يعرف ذلك فلا خلاف في تحريمه عليه، وجاء هاهنا: " والحج وصوم رمضان " بتقديم الحج، وفي طريقين لمسلم وفي بعض الطرق بتقديم رمضان، وفي بعضها " فقال رجل: الحج وصيام رمضان، وقال ابن عمر: لا; صيام رمضان والحج. هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

                                                                                                                                                                                  واختلف الناس في الجمع بين الروايات، فقال المازري: تحمل مشاحة ابن عمر على أنه كان لا يرى رواية الحديث بالمعنى وإن أداه بلفظ يحتمل أو كان يرى الواو توجب الترتيب فتجب المحافظة على اللفظ لأنه قد تتعلق به أحكام.

                                                                                                                                                                                  وقيل: إن ابن عمر رواه على الأمرين ولكنه لما رد عليه الرجل قال: لا ترد علي ما لا علم لك به كما رواه في أحدهما، وقيل: يحتمل أنه كان ناسيا للأخرى عند الإنكار، ومنهم من قال: الصواب تقديم الصوم والرواية الأخرى وهم لإنكار ابن عمر وزجره عند ذكرها.

                                                                                                                                                                                  واستضعف هذا بأنه يجر إلى توهين الرواية الصحيحة وطر، واحتمال الفساد عند فتحه لأنا لو فتحنا هذا الباب لارتفع الوثوق بكثير من الروايات إلا القليل، ولأن الروايتين في الصحيح ولا تنافي بينهما كما تقدم من جواز رواية الأمرين.

                                                                                                                                                                                  قال القاضي: وقد يكون رد ابن عمر الرجل إلى تقديم رمضان; لأن وجوب صوم رمضان نزل في السنة الثانية من الهجرة وفريضة الحج في سنة ست. وقيل: تسع بالمثناة; فجاء لفظ ابن عمر على نسقها في التاريخ، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن صلا: محافظة ابن عمر على ما سمعه حجة لمن قال بترتيب الواو; قلت: للجمهور أن يجيبوا عن ذلك بأن تقديم الصوم لتقدم زمنه كما ذكرناه، وفي قوله " واستضعف هذا " إلى آخره نظر. وقد وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه على مسلم عكس ما وقع في الصحيح، وهو أن ابن عمر قال للرجل: اجعل صيام رمضان آخرهن كما سمعت، وأجاب عنه ابن صلاح بقوله: لا تقاوم هذه رواية مسلم. وقال النووي بأن القضية لرجلين، فإن قلت: ما تقول في الرواية التي اقتصرت على إحدى الشهادتين؟ قلت: إما اكتفاء بذكر إحداهما عن الأخرى لدلالتها عليها وإما لتقصير من الراوي; فزاد عليه غيره فقبلت زيادته، فافهم.

                                                                                                                                                                                  والرجل المردود عليه تقديمه الحج اسمه يزيد بن بشر السكسكي، ذكره الخطيب في الأسماء المبهمة له.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية